ترجمة :عبدالوهّاب الدیروی
﴿ قسم التخصّص فی الإفتاء بالجامعة ﴾

ذِکرَیات
للعلامة الفقیه الشیخ محمد تقی العثمانی﴿مد الله فی حیاته﴾
﴿الحلقة السادسة﴾

(سلسلة ترجمة و تعريب “ذكريات ” لشيخنا العلامة العثماني- حفظه الله تعالى – ، و قد تفضل سماحته بتسجيل ذكرياته العطرة التي تغطي حوالي نصف قرن و ما يزيد من حياته المعمورة بالأعمال الإبداعية الموفقة في شتى ميادين الحياة المعاصرة المتحركة، وقد كان الإلحاح على الشيخ دائما مستمرا ، ولکن أبى الشيخ المتواضع أن يرى نفسه تليق أن تذكر في سجلات الذكريات والتراجم ، إلا أن قيض الله تعالى العلامة أحمد الخانفوري الهندي ليقنِع شيخنا العلامة بذلك ، فقام بفتح هذه السلسلة الشيقة من ذكرياته نزولًا عند رغبة العلامة الشيخ الخانفوري حفظه الله تعالى ، و لينفض به غبار اللبس عن وقائع من حياته، قد اشتبهت ملابساتها على بعض الأفاضل المترجمين لحياته و المعنيين بذكر جهوده و أعماله، و قد شرعنا في ترجمة حلقاتها المنشورة في صفحات “مجلة البلاغ الأردية” إلى اللغة العربية ، بإذن شفوي من صاحبها قبل ظهورها إلى حيز النشر ،جزاه الله تعالى عنا كل خير ، و نفعنا بعلومه و بركاته۔ المترجم)

ويأتي في المرتبة الرابعة دور شقيقتنا السيدة حسيبة() –رحمها الله تعالى – وتتلوها السيدة صاحبة الفضيلة رقيبة –مدّ ظلّها- والتي نناديها باسم ” چهوٹی آپا” [ تعبير محلي لمناداة الأخت الصغيرة على سبيل الاحترام ]، وكانتا تكبراني سنّا، و لم تكونا قد تزوجتا بعدُ، وقد وفّرتا عليّ من عنايتهما السخيّة ما قلب علاقتَنا فيما بيننا إلى ما هو أشبه بالصداقة الدائمة المنفتحة، و كانت كل حصيلتهما من الثقافة ما تحصّلتا عليها في “كُتّاب العمّة أمة الحنان” ( وسنأتي على ذكرها لاحقا)، ومقتصرةً على مدارسة الكتاب الأُسَري المعروف ” بهشتي زيور”[ حلي الجنة، كتاب ألّفه حكيم الأمة العلامة أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى لتزويد الفتيات و السيدات المسلمات بالثقافة الإسلامية اللازمة]، و لكنهما – وبفضل تربية سماحة الوالد الكريم -رحمه الله تعالى- إياهما تربيةً جميلةً متكاملةً – قد بلغتا من الذوقِ العلمی و الأدبي بمكانٍ يفوق السيدات الخريجات من الجامعات العصرية ، کما کان لهما اطلاع واسع على الكتب وعهد كبير بمطالعتها، ولم تكن مواهبهما مقصورة على فهم الأدب الراقي الجميل وتذوقه فحسب، بل كانتا تقرضان شعرا جميلا و راقيا، ونعرض فيما يلي نموذجا بسيطا من شعر صاحبة الفضيلة السيدة حسيبة –رحمها الله تعالى- [ ما ترجمته كالتالي]:
[ترجمة الأبيات: يأخذنا البكاء و التأسف علی مصیر هذه الحدائق، و ما یُدرینا ما ذا یدعو أزهارَها للتفتح و الضحك ..!، و إن البروق السماویة تمرّ بوكناتنا دون أن تقَلَّ لنا تحية و رسالة، و ما يدرينا ما الذي أثار سخطَها علينا ….!!]
ومن شعر صاحبة الفضيلة السيدة رقيبة –مدظلها- ما [ترجمته كالتالي] :
[ترجمة البيت:على الرغم من محاولات هضمي لهمومي فقد اغرورقت عيوني ، و انهزمت و خضعت لسلطانِ القلب، و بينما كانت النجوم و القمر مشتغلة بالإصغاء إلى أسطورة همومي إذ خيّم عليها الرقود قبل أن أن أنتهي من حكايتها.. ….!]
وكانت معظم أوقات تنقضي مع هاتين الشقيقتين جنبا إلى جنب، إذ كانتا مأمورتين بتعهدي و رعاية جميع شئوني أخذاً من تحمّل تدلّلاتي و انتهاءًا بقضاء سائر حوائجي الأهلية ، و مصاحبتي لهما هي التي ألقت في داخلي بذرةَ الذوق الأدبي، و فجّرت عينَه، و سأتوسّع في الحديث عن ذلك لاحقا إنشاء الله تعالى ….
ويتلوهما صاحب الفضيلة محمد رضي العثماني رحمه الله تعالى ، و كان أستاذا للغة الفارسية في دارالعلوم/ديوبند، و كان شديد الحب و الاهتمام بالأطفال، كما كان له بصيرة ثاقبة في الاطلاع على نفسيّاتهم الدقيقة المعقّدة، و قد عوّدني على التعامل معه بالدّلال أكثر من اللازم، فيسعى لتحقيق كل رغبة لي، و كنا نحن الصغار نناديه ب” الأخ رضي”، بينما كنت أدعوه بلساني الألثغ يومَئذٍ” بهائی لجی” ، [ و أصله: ” بهائی رضی”]
وعندما لا يحقق لي طلبا فأعبّر عن سخطي و استيائي له بحذف كلمة ” الأخ” من الخطاب، و أناديه بلهجة غاضبة باسمه قائلا :”لجي”!.
وقد علم مرة أني أفرح للحمام، و كان له صديق من أبناء أخ العلامة الشيخ شبير أحمد العثماني رحمه الله تعالى يقتني الحمام، و لعل الأخ الكريم التمس منه أن يوفّر لنا واحدا منه، فأتى به يوما إلى بابنا، وأخذني الأخ إليه ليُريني ذلك، ولما وقع بصري على الحمام، وعلمت أنه أحضر لي خاصة، استبشرت به فرَحا لا يوصَف، ولا زلت أتذكر ساعة فرَحي تلك.
غفر الله تعالى أخي الكريم، وكان بدوره صغيرَ السنّ، وربّما يرسم على الكاغذ رسوما مختلفة لإفراحي، وقد حدث مرّة أنه رسم على الكاغذ صورا للجوافة، والليمون، والطير، والحمار والغراب، ولعلّي كنت على سابق علمٍ من أمر والدي الكريم أنه يسوءه تصويرُ الحيوانات، ومن ثمّ كنت إذا وجدت عليه في نفسي لسببٍ أناديه باسمه، وأقول بلساني الألثغ: ” املود، نيموں، چليا، ددھا، توّا” ( و أصلها: امرود ، ليموں ، چڑيا، گدھا، كوّا، يعني الجوافة و الليمون، و الطير ، و الحمار و الغراب)، و كان هذا يُكنّ تحدّيا خفيّا بأنك لو لم تضمن إرضائي فإني سأرفع أمرك إلى الوالد الكريم و أشكو إليه أنك رسمت صورَ الطير و الحمار و الغراب، و مع مرور الأيام قد أخذت هذه الجملة مأخذَ الشتم على لساني ، فكنت أستخدمه كأداةٍ للشتم أُوجّهه ليس إليه فحسب، بل إلى كل من أسخط عليه، و أشعر منه باستياءٍ في نفسي، فأقول له بنبرة غضبٍ: ” املود، نيموں، چليا،ددها ، توّا” ، و كان أغلظ شتمٍ بالنسبة لي عندما كنت أوجّهه إلى أحد من الأطفال عند الشجار.
أمطر الله تعالى على أخي رضي الكريم شآبیب المغفرة و الرضوان، وکان من حبّه الجمّ الشديد بي أنه لماّ وجّهت إلى والدي الكريم دعوة إلى دارالعلوم/دابهيل ليتولّى تدريس الصحيح للإمام البخاري مكانَ شيخ الإسلام العلامة شبير أحمد العثماني قدّس سرّه، فاستصحبه الوالد الكريم معه، ومكثا هناك عدة شهور، فكان يتذكّرني بفارغ الصبر وبالغ الأسى، وقد كتب في مقالته التي كتبها بمناسبة رحيل الوالد الكريم في مجلة ” البلاغ” الأردية ما يعبّر عن مشاعره كالتالي:
” وكان الأحقر[يعني نفسَه تواضعا] يدرس القرآن الکریم نظرا، و التحق بقسمِه، و بعد العطلة يقضي أكثر أوقاته واجما صامتا، لا يروق له شئ من الطعام و لا غیره من الأعمال، و كان السبب الرئیسي وراءه أن شيخَ اليوم: محمد تقي العثماني ( مدير مجلة البلاغ) كان ابنَ سنتين أو سنتين و نصف يومَئذٍ، و کنت لبالغ حبي له و اتصال حبل الوداد به لا أكاد أقضي حتى ساعة واحدة بدونه إبَّانَ بقائي في ديوبند، و في ” دابهيل” كان هو الآخر محورَ أفكاري و تصوراتي، و عندما تضيق بي السبل كلّها ألجأ إلى الجداران فأرسم عليها اسمه ” ( العدد الخاص بالمفتي الأعظم لمجلة البلاغ ،ج:۲، ص :۱۰۴۴).
وكان من عظيم تضحيات الأخ الكريم التي بذلها : أنه بعد الهجرة إلى باكستان –وبحکم کونه أكبرَنا سنّا، و الأقدرَ على مساعدة الوالد الكريم في شئون المعیشة-تولّى إدارة مطبع ” دارالإشاعة” بصفته ناظرا لها، و صار شبهَ الوقف على أمرِها، فلم يستطع من أجل ذلك مواصلة سيره التعليمي، و لكن كان من فضل الله عليه أنه ظلّ مغبوطا في حياته العملية للكثيرين بمعارفه و خبراته الدينية النابعة عن مطالعاته الموفَّقة، والتي واصلَها حتى نهاية المطاف من حياته، و كان يستمد من هذه المطالعات رصيدا مستمرا من المعلومات و المعارف. و قد رُزِق ولَعا متميزا بالرحيل إلى الحرمين الشريفين، و كان من دأبه الخروج للحج أو العمرة على مدار كل سنة مدفوعا إليه بمنتهى معاني الوَلَه و الشغَف.

الشيخ محمد ولي الرازي

ويتلوه في المرتبة السابعة صاحب الفضيلة محمد ولي الرازي –مُدَّظلّهم-، و کان یحفظ القرآن الکریم فی دارالعلوم/دیوبند، و قد أُوتي بفضل الله تعالى من الذكاء و الفطنة، وسرعة البديهة، وملاحة الطبع الشيء الكثير، و هو فارس كل ميدان ولَجه، عندما طرق بابَ الشعر و دخل في مشواره أبعَد فيه و أجاد، و عندما دخل في شعبة التعليم، و انشغل بتدريس العلوم الإسلامية في ” كراچي گرامر سكول” و ” جامعة كراتشي” أحدث انقلابات صالحة في حياة الكثيرين، ولمّا فاز بشهادة الماجستير في قسم اللغة الإنكليزية سخّر كفاءاته اللغوية المكتسبة منها في ترجمة العديد من الكتب الدينية إلى اللغة الإنكليزية. وهو الذي نقل الكتابَين : ” من العهد القديم إلى القرآن الکریم” و ” موقف الأمة الإسلامية الموحَّد من الطائفة القاديانية” [ كتابان لصاحب الذكريات باللغة الأردية] إلى اللغة الإنجليزية. و لم تزل مجلة ” البلاغ” الإنجليزية تصدر تحت رئاسة تحريره. و تتجلّى ذكاءه الخارق و فطنته المتوقدة من خلال تأليفه للكتاب المسمّى : ” هادي عالم صلى الله عليه وسلم” والذي طار بصيته الرکبان في الآفاق. وقد ألّف سماحته هذا الكتاب في موضوع سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ملتزما منهجا متميزا و فريدا من نوعه، حيث انتهج أن لا يورِد في بيان سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على طولِها أيةَ كلمة منقوطة معجمة، وقد فعَل، فلم يرد في هذه السيرة المحتوية على أربع مائة صفحة(۴۰۰) من ألفِها إلى ياءِها أي كلمة ذات نقطة، و بالتالي فإنه يمثّل خصيصة فريدة من نوعِها، و ربّما لا نجانب الصواب إذا قلنا بأنّ هذه الخصيصة سجّلت رقما قياسيا عالميّا في هذا الخصوص. فما أصعب أن تنشيء كتابةً طويلةً في الأردية عاريةً عن النقاط، و لا سيّما كتابةَ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصعِب بها و حدّث عن البحر و لا حرج، و قد أطلت نفَسي بعضَ الشيء للتدليل على خطورة هذا النوع من الكتابة في مقدمتي لهذا الكتاب. و لكن حالفَ سماحتَه توفيق رباني خاص إذ أنجَز هذه المكرُمة في عداد أشهر، و سجّل رقما قياسيا. و لِسماحته كتب و مقالات أخرى غير هذا، و هي كثير، و تمثّل مرآۃ لاتجاهاته الأدبية و الدينية و العلمية المتيزة، كما تعكِس إدمانَه للقراءة. و قد جعلَه الله تعالى ملاكا من التواضع البالغ و سذاجةِ الطبع. و لم يزل عاكفا على خدمته للعلم و الدين بمقالاته التي يكتبها بعيداً عن أسباب الشهرة و بمعزلٍ عن أبواق الدعاية.

فضيلة الشيخ محمد رفيع العثماني حفظه الله تعالى

و فی المرتبة الثامنة يأتي دورُ شقيقي الكبير فضيلة الشيخ المفتي محمد رفيع العثماني-مُدَظلُّهم-، و هو يكبُرني بسبع سنين، و لكنّ الله تعالى جعل بعضنا مرتبطين ببعض منذ أيام الطفولة حتى اليوم بحيث أصبحت أسماءُ كلانا تُذكر معاً شِبهَ متلازمَين، ليس في حدود الأسرة فحسب، بل في الأوساط الدينية و الوطنية كذلك. و قد تشرّفت بمرافقته لأطولِ مدّة من الزمن لم أحظ بمثلها مع أحدٍ مِن سائر إخوتي و أخواتي، و قد تعلّمت بفضلها الكثير و الكثير، و لكن عشوائية طبعي حالت دوماً دون العمل بمقتضاه، فهو يعيش حياة منظمة سلِقة تحكمها أصول و ضوابط، و أنا المتخبط و العشوائي، و هو يعتاد تسيير أموره بالتؤدة و الطمأنينة و الرزانة، و أنا العَجول المتسرّع، و هو المهتم بالترتيب و النظام في جميع أشياءه أخذا من بيته إلى مكتبه، و أنا فاقد النظام. و فذلكة الكلام أنه تحمّل عني حماقاتي هذه بمنتهى الصبر و الاحتمال، و الفضل فيه راجع إلى رحابة صدره و شكيمة عزمه، و هذا النوع من الاختلاف في الطبائع،و الذی کان الجانب السلبي منه نابعا عن الأسلوب غير المنظّم لحياتي لم يتحوّل أبداً –بفضل سموّ نفسه و تحمّله و عِظَم شأنه- إلى أيِّ وضعٍ مِن الاستياء جديرٍ بالذكر ، و أدين له بفضله الأخوي العصامي الذي كان الحافز الأهمّ لاستفادتي منه في أكثر شئونی، أخذاً من مرحلة التحصيل إلى میدان التدريس إلى مجال الإفتاء ثم إلى القضايا الوطنية، في جوّ متكامل من التلاءم و لله تعالى الحمد، حيث قد شمَلَني دوما بعنايته و شفقته… و قد لقّبه العلماء الأجلاّء بصفة ” المفتي العام لباكستان” بعد الشيخ المفتي ولي حسن رحمه الله تعالى[ المفتي العام سابقا]، وتشهد بجدارته لهذا اللقب مؤلفاتُه و فتاواه الأردية و العربية، و أمالي دروسه الواضحة المنضبطة المحكّمة، و خطاباته الصريحة الدقيقة و مواعظه التربوية.و يتصدّر اسمه كل قائمة تضمّ العلماء المخلصين الجادّين و المتميّزين برأيهم السديد، و منهجهم الوسطي المعتدل الرزين. و لله الحمد. و قد وهب من مجهوده الجسمي و الفكري لجامعة دارالعلوم كراتشي و للارتقاء بها و تشييدها إلى أفضل مستوى من العمارة و البناء ، تماما كما يشهد له بذلك مبانيها الشاهقة و الشامخة بكل شبر من أشبارها و وهادها ونجادها.و لست بالمطري غالبا إن قلت أ نه أجهد نفسَه في الإشراف المباشر على جميع المباني الجامعية –ما عدا واحد أو اثنين-،و أفرغ عرقَ جهده في كل لبِنة من لبناتها. فالله تعالى أسأل أن يُديم ظلال كرمه و عنايته علينا في عافية تامة و رفاهية سابغة. فإنه يمثّل دورَ الأب الكريم ليس بالنسبة لي فحسب، بل لعموم الأسرة ، و لدارالعلوم بأسرها. و أمّا خدماته للوطن و الملة فهي صفحات لا تنسى في سجلّ التاريخ.

متواصل……………