ترجمة :عبدالوهّاب الدیروی
﴿ قسم التخصّص فی الإفتاء بالجامعة ﴾

ذِکرَیات
للعلامة الفقیه الشیخ محمد تقی العثمانی﴿مد الله فی حیاته﴾
﴿الحلقة الرابعة﴾

(سلسلة ترجمة و تعريب “ذكريات ” لشيخنا العلامة العثماني- حفظه الله تعالى – ، و قد تفضل سماحته بتسجيل ذكرياته العطرة التي تغطي حوالي نصف قرن و ما يزيد من  حياته المعمورة بالأعمال الإبداعية الموفقة في شتى مجالات الحياة المعاصرة المتحركة ، قد كان الإلحاح على الشيخ دائما مستمرا ، ولکن أبى الشيخ المتواضع أن يرى نفسه تليق أن تذكر في سجلات الذكريات و التراجم ، إلی أن قيض الله تعالى العلامة أحمد الخانفوري الهندي ليقنِع شيخنا العلامة بذلك ، فقام بفتح هذه السلسلة الشيقة من ذكرياته نزولا عند رغبة العلامة الشيخ الخانفوري حفظه الله تعالى ، و قد شرعنا في ترجمة حلقاتها المنشورة في صفحات “مجلة البلاغ الأردية” ، بإذن شفوي من صاحبها ،جزاه الله تعالى عنا كل خير ، و نفعنا بعلومه و بركاته۔ المترجم)

[قريتي و مسقط رأسي : “ديوبند”:]

إن هذه الذكريات راجعة إلى  الأيام التي لم تكن قد شهدت فيها  بيوت “منطقة ديوبند”  كهرباءَ ، و لا مِروحةً ، و لا صنابیر ماء جاريةً ، و لا زيتا ، و لا مواقدَ الغاز، و إنما كانت هي الشمَعات أو الفوانيس(نوع من مصابيح الزيت ) التي ظلّت تحلّ محلَ قماقم الكهرباء، و تفعل فعلَها ، و كانت المياه تُدَّخر في جرار مصنوعة من الخزف و الفخار، أو في جِرار من النحاس، و كان غالبامّا يستخدم الناس رجلاً سقّاءَ لادّخار الماء فيها، حيث كان يحملها  في سِقاء ( قِربة كبيرة) من الجلد على ظهره ، و يوزّعها على بيوت الأهالي، وإن كانت ثمة منطقة عصرية راقية ، و متسمةً بشئ من الأناقة ،فإن أكثر ما كانت تستطيع أن تتميز بها عن غيرها: هو أن تُجري عمليةَ ثقب(Boring) فيها ؛ لتركيب  أُنبوبةٍ من الحديد  مشتركةٍ ،  ليتمّ به استخراج الماء بواسطة تحريك قبضته اليدوية تحريكا شديدا، تارة إلى جهة الأعلى ، و أخرى إلى جهة الأسفل ، و تستمر هذه العملية إلى حين ملأ السطل أو الكوز الموضوع أمام فم الأنبوبة، و كانت هذه العملية ، علاوةً على توفير الماء بهذا الشكل ، توفِّر فرصة ً لترویض کلتا الیدَین ، بل و ترويض الجسم کله، و بحكم سنيّ الصغير الذي لم يعُد بعدُ لِيُطيق هذه الرياضة الكبيرة ، فإن أكبرَ متعة  ٍ كنتُ أجِدها يومئذٍ، هو أن أتمتع بمشهد  هؤلاء الناس ،و هم يتأرجحون بمقبض هذه الأنبوبة ،و لكأنها أرجوحة مربوطة  لخاصتهم ، و کانت تُستخدم “الشِربات”(أواني كالقَشاشية ) لِشرب الماء ، و التي طالَما کان تضربها صفعاتُ السموم، فتُصبِح باردةً سائغة ً للشاربین، و لم يكن قد حصل للناس یومَئذٍ عهد بمراوح كهربائیة،  وإنما كانت المراوح هي مراوح اليد الخاصة، والتي  أتذكرها و أتمناها بشدة متناهية حتى  اليوم كلما غابت الكهرباء

وفي شهر يونيو عندما كان  يحين موعد حلول موسم الحر،  و عندما تغدو جدران الحي و لكأنها تتفجّر حَرّاً، و الطرقات تتنفس الحرارة الشديدة ، و تتقيأ السموم، فيأتي سقّاء (حمّال الماء ، وكانو يدعونه :بهشتي، و ماشكي ،في اللغة الهندية) ،و يرشّ الأرض بالماء من قِربته ، فيقوم أحدنا ، و يسعى جاهدا لجذب موجاتِ الهواء المحبوسة في الفضاء تجاهَ وجهه بمروحةِ يده،  فيُحسّ معها بشمّةٍ حلوة من الطين المبلول برشاشات الماء ، کما یجتهد لِیستمتع في نفس الوقت  بلمساتها الباردة قدرَ المستطاع

و في نفسِ الموسم ، عندما كنت أستلقي مع والدتي الماجدة على سرير منسوج من حبال،۔۔۔۔۔۔۔ فلم يكن ليحول بيني و بين السماء المملوءة بالنجوم اللامعة، أي ستار من الغاز، و البترول ، و الدِيزل، كما لم يكن ثمةَ أي ضياء منتشر في حدود الفضاء الفسيح ليحجب عني نورَ النجوم ، أو يجعل أصغرَ نجمٍ في وسط السماء أن يضمحلّ نوره، فلا أراه ، أبداً، شئی من کل ذلک لم یحدث قط ، و هكذا كنت أرنو  إلى الشبكات المنتشرة ، السابحة من  النجوم المتلألأة في كبد السماء ، مستمتعاً بها و بالبياض الظاهر المتفجـّر منها ، و ربما إلى وقت متأخر من الليل ، حتى يُخيم النوم على عيني ، فأغيب في واديه

و كان شعورنا –نحن الأطفال- أن هذه السلسلة من النجوم إنما هو طريق بسطها الله تعالى لسير الملائکة عليه ،فكنت أبقى  أتخيل الملائكة و هم ينتقلون بين هذه الطرقات ، حتي يغلبني النوم ،فيؤيني النوم جناحيه

أسرتي و أعضاءها

و إني لأودّ أن أدخل في صميم ذكرياتي ، و أفتتحها بشتات من أحداث الطفولة ، و لكن هذا يستدعي أن أذكر  طرفاً وجيزا  من أعضاء أسرتي يومَها قبلُ   :

[والدي الماجد رحمه الله تعالى :]

                لا أراني أحتاج إلى التعريف بوالدي الماجد العلامة المفتي محمد شفيع -رحمه الله تعالى-، لأنه أعظم من أن أُعرّف به، بل أنا الذي  عُرِفتُ به ،( [1])، و لاغروَ، فأنا به و منه و إليه، فإن كان فيّ شئ اسمه الخير ، وفقني الله له،  فهو غيض من فيضه، و إن كان مِن شرّ فمِن أجل التقصير في الاستفادة من مجالسِه، و الاستقاء من معينه، و على أي حالٍ، فما بي من شئ، فالفضل فيه راجع إليه ، تماماً کما قال الشاعر الفارسي(ما في معناه):

إن كنتُ أسودَ القلب، فأنا شِية في حديقة أزهارك

و أن كنت واسعَ الجبين فأنا زهرة مِن ربيعِك

و مِن ثمّ فإن ذكراه ستتكرّر في غضونِ ذكرياتي هذه، من حينٍ لآخرٍ،

منذ أن أبصرتُ نورَ الوجود ، و تفتّح وعيي على الحياة ، وجدتُ والدي الماجد رحمه الله تعالى بين أحدِ الأمرين :  على الرغم من استقالته مِن منصب رئاسة الإفتاء و مهمة التدريس في جامعة دارالعلوم /دیوبند ، إلا أنه كان يدرّس بعضَ الطلاب في بيته، و كانوا يحضُرون عند والدي الماجد بطلب ٍ خاصٍّ منهم ، لِيتشرفوا بالتَّلمَذَة على سماحته، الأمر الذي يسمّى في عصرِنا ” کوچنک، أو تيوشن”، و لكن الفارق الكبير بين هذا و ذاك أن هذا الأخير الذي استحدثه عصرُنا يكون ذريعة لجلبِ دَخلٍ كبير بالنسبة للمدرِّس، بينما الأمر في المدارس الدينية كان و لم يزل على العكس تماما، حيث تهيمِن على الرابطة المتبادلة بين الأستاذ و التلميذ صِبغة قوية من الإخلاص و التطوعية، و بالتالي فإنّ الطالب الذي لا يتشبّع بالدرس في حدودِ الفصل، فإن الأستاذ لا يضنّ عليه أبدا بالتعليم خارجَ حدودِ الفصل، لا لشئ، و لکن لِيوفّيه حقَّه من العناية ،و إن الاستيعاضَ عن هذا التعليم يّعدّ عيباّ أيما عيبٍ في الأوساطِ المدرسية الدينية مهما كانت حالة الأستاذ الاقتصادية منحطّة و هابطة، و على هذا الأساس و بهذه العاطفة و الحماس كان والدي الكريم- رحمه الله تعالى- يهتم بتعليم أولئك الطلَبة في بيته أو مسجدِ حيّه

و كان مسجدُ حيِّنا يُسمىّ “آدینی مسجد”،([2]) و لکن جرت ألسنةُ العامة من أهلِ المحلة بمناداتِه ” ديني مسجد(المسجد الديني)”، و كان جدّي الشيخ محمد يسين رحمه الله تعالى “متولّيا” لهذا المسجد،([3]) ثم خلفَه مِن بعده والدي الماجد -رحمه الله تعالى-، فكان يُلقي فيه  الدروسَ كذلك في بعض الأحيان۔

و الأمرُ الثاني (الذي وجدت والدي الماجدي يشغَله منذ البداية) هو الكتابة و التأليف، فكان ذلك هوايته الدائمة، حيث وجدته في أكثر أحيانه وهو يكتب ، حتى في أثناء الليل و فی موسمِ الحر، حینَما كان يُعلّق في صحنِ بيتنا “قنديل” لبثِّ الضوء في الأرجاء ،كان يتراءى لنا سماحة الوالد -رحمه الله تعالى- و هو يغمِس “قلمَه الخشبي”(و كان يُدعى “كلك كا قلم” ) في المحبرة ، و لا يفتأ يكتب ما شاء الله أن يكتب، و لم يكن العصرُ يومَئذٍقد شهد هذا القلمَ المتطور(فاونتين)۔ عدا ذلك، فلقد كان اتخذ لنفسه غرفة صغيرة إلى جنب مجلسِه في البيت، و كنا ندعوها ” الحجرة”، و هي کانت موضعَ عبادته، يخلو فيها مع ربه، فربّما كنا نسمعُه فيها وهو يذكرُ الله تعالى و يتلو في آناء اللیل و آناء النهار۔

و أنّى كان لي يومذاك كطِفلٍ حديث السنّ أن أتعرّف على المستوی الرفیع الذي كان عليه  حضرة والدي من الكمال العلمي و العملي، هيهات أن أذرع مداها ! (و لا استطعتُه حتى الحين كما ينبغي أن يكون )، و لكن الأمر الذي استطعت إدراكَه حتما، هو أن والدي الماجد كان يمثّل لي مركزَ ثقلٍ وحيدٍ  للوُدّ و التبجيل في حدودِ ذلك الكون الصغير الذي عشتُه، و نسجتُه من حولي، و إنّ والدي کان هو الآخر  يُعيرُني من حبّه الشئَ الکثیر، و  كان لسائر إخوتي الكبار حظ مِن حبّه، كما ذاقو من تأديبه،  و لكن ما وقع في نصيبي كان هو الحبّ أولا و آخرا،و قد حدث ذات مرةٍ أن رحلت مع والدتي الماجدة إلى مدينة ” لاهور” لزيارة شقيقي الأكبر ، فراسلَ أخي قائلا:
” بدون محمد تقي –سلـّمه- فإنّي یعزّ عليّ مرورُ الأيام ، و قطعُ الأوان ”

و في إبّان فترةِ بقائنا في منطقة ” ديوبند” لا أتذكر من رَحلاته إلا رحلةً إلى مدينة ” مدراس” ، و قد شقّت علي مفارقته للغاية، و زاده بلّةً حادث آخر، ذلك: أنّ والدي الماجد لما قفَل عن رحلته، و قد كنتُ أقنعتُ إخوتي مسبَقا بعدَ إلحاحٍ مُضنٍ، أن يستصحبوني إلى “محطّة  القطار “لاستقبال الوالد الكريم، و علاوةً علی الحنین الزائد إلى متعة استقبال والدي الماجد رحمه الله تعالى -و كانت الحافزَ الأكبر لهذا الإلحاح-  فإنّي كنتُ إلى ذلك أُكِنّ في نفسي الاستمتاع بمتعتَين أُخرَيَين : إحداهما التمتع بمركب ” عربةِ الحصان” الذي طالَما حلُمت به ، و الذي قلّما كانت تتسنّى لنا فرصة لركوبها، لأني كنت أقطع المسافاتِ القريبة مشياً، و المسافاتِ المتوسطة مع والدتي الماجدة في “الحَجَلة” ، و لم يكن من المتوقَع أن نُحدِث سفراً إلى جهة بعيدة كالمحطة، فكانت  الرحلة عبرَ ” عربة الحصان” أمرا حتما هذه المرة، و كان في المحلّة رجل هندوكي صاحب العربة، و يُدعى ” پهگو” ، و كان من اللازم احتجازُ عربته مسبَقا في حالةٍ كهذه، و قد فعلوا ذلك ، وبعدَ كل هذا ،كنت أرتقب رِحلةً كرحلة الملوك عبرَ هذه العربة، و كان يُمثِّل لي منظراً بهيجاً لم يزل يرواد مخيَّلتي آنَذاك ۔ و المتعة الثانية كانت تتمثل في ” محطة القطار” ذاتها، حيث لم تكُن بالنسبة لنا أقلَّ من “منتَزَهٍ ” من المستوى العالي، و كانت فرُص الاستمتاع بزيارتها شبهَ النادر المعدوم في عامة الأحيان، و بكل هذه الاعتبارات فإن هذه الرحلة المرتقَبة كانت تمثِّل لي موطِنَ فرَحٍ و سرورٍ بالغَين۔۔۔

و لكن حدَث في ذات الساعة التي حانَ فيها رحيلُنا ما كدَّر صفوةَ هذه الرحلة و حرَمني متعتها، ذلك أنَّ يدي احترقت بسببٍ لم تُعلَم جهته، فأوقفوني في البيت للمداواة، و حُرِمت الذهاب إلى المحطّة، و كان هذا الحِرمان يجمَع في طيّاته العديد من  “الحِرمانات”، و من ثم لم تخرج عن بالي حتى اليوم تلك الحسرَةُ  التي تذَّوقت ويلتَها يومَئذ، و لكن تلا  موقفَ تلك الحسرة موقف آخر، لا یسعَنی أن أنساه حتى الحين ،و كان موقفاً ملؤه المتعة و المسرّة، حيث كان من أمرِ  والدي الماجد رحمه الله تعالى أنه ما إن دخل البيت ، و قَبلَ أن يلتفت إلى شئ آخر: ناداني لتوّه، و هروَل نحوي مندفعاً ليضمّني إلى صدرِه، و لكأنّي به بتلك الحالة حتى اللحظة ،   و أتخيّله على ساحة ذهني و هو آخذ بي، في ظلالِ نورِ “القنديل” الضئیل لیلاً، بتلك اللحية الكثّة السوداء،وبذلك الوجه الذي يتلألأ فرَحاً، و تتفجـّر أساريره حبّاً۔۔۔!!!

أمي الماجدة رحمها الله تعالى

كانت أمي الماجدة صاحبة الفضيلة /السیدۃنفیسة –أمطر الله تعالى عليها مِن سحائب رحمته- أمّا مثالية ، و صاحبةَ بيت مثالية مِن النوع الأهلي التقليدي، كانت تنتمي إلى أسرة “أنصارية” معروفة في قرية ديوبند، و لها آیات و أحاديث في مساندةِ سيدي الوالدي الكريم في الضراء و السراء، حتى أوفته حق الرِفاق في درب الحياة ، و الحديث عنها ذو شجون ، و هو موضوع برأسه  ، و لقد سبَق أن  كتبت مقالةَ  رثاء ٍ إثرَ  رحيلها و  قد ضُمَت إلى سلسلة مقالاتي المطبوعة باسم ” نقوش رفتگاں ” (آثارُ الراحلين) ،و ككُلٍّ، فلقد کانت –الوالدة الكريمة- هي الأخرى سیدة عابدة زاهدة،  لم تفُتها قراءةُ نصیبٍ مِن أورادِها اليومية  من القرآن الکریم و الذکر و النفل طوالَ حیاتِها ما دامت واعيةً  أو تُحسّ  رِكزا

و أما بالنسبة لنا فلقد كانت ملاكا مِن العطف و الحنان، و هبت لصالحِنا كلّ أوقاتِها ، حتى ظلّت تواصل الليل بالنهار ، و الصبوح بالغبوق ، ساهرةً علی إشباعِ حوائجنا، و توفية راحتنا، مؤثرةً إياها على حسابِ نفسِها دائما ، فلا تكاد تأخذ حتى قسطَ نفسِها من الاستراحة ،و مهما يكن نصيبُ حبّها سواسيةً لِجميع أولادِها ، فإنّي –و لِكوني أصغرَهم سنّا- قد نالني من حبِّها و دَلالِها الحظ الأكبر،و كان من نتيجة هذا الدلال أني لم أزل أتعاطي الطعام مِن يدَيها ، فلا أكاد أكل ما لم تناوِلني بيدَيها لقمةً لقمةً، عدا ذلك، فإنها –الوالدۃ الکریمة- کلماارتادت بیتا في الجوار ،فلم يكن مِن المتصوَّر أن  أتخلى عن مصاحبتِها ۔

و لم یکن في الحسبانِ أيامَنا تلك استحداثُ مراكب آلیة مِن نوعِ السيارات وغيرها في قرية ک”ديوبند”، و لا عسا أن يكون  لأحدٍ لم يتجاوز ثغورَ هذه القرية أيُّ عهدٍ  بمشاهدتها، كلّ ما كان ثمةَ مِن مَركبٍ بمتناولهم ،فهو ” عربة الحصان” التي يستخدمها الناس لقطع المسافات الداخلية، على أنها –هي الأخرى- إنما كانت تخصّ الرجال ، و يُعاب على النساء ركوبها ،و إن تسترت بالحجاب، إلا اللهم أن تحدث حاجةُ سفرٍ إلى جهة بعيدة ،  يشقّ السفر إليها بدون العربة، فيَتمّ حينَئذٍ إسدالُ ستائر على العربة ،بحيث يحيط بها من جهاتِها الأربعة، فتركبها النساء المتحجبات ، و يقعدن داخلَها ۔و أما وسيلة التنقل بين المحلات غير المتباعدة، فکانت هي ” الحجلة/الهودج” ، و كانت تسمى في لغة أهلِ ديوبند ب” ڈولي”۔

و كان يحمِل هذا الهودج رجلان على أكتافهما ، و كانو يدعون حامِله ” كُهار”، فكلما دعت الحاجةُ سيدةً من أهل الحي إلى الهودج ، وضعَه ” كُهار” في حدودِ بيتها، و خلى بينه و بين السيدة ، و ذهب خارجا،  فتقعد هي فيه، و ربما تضع إلى جانبِها حجرا ، بهدفِ أن لا يتنبّه الحامل (كُهار) لمدى ثِقل السيدة و وزنِها الحقيقي أثناءَ الحمل، و قد يحدو الصبيانَ شوقُهم إلى التمتع بمركب ” الهودج ” بمصاحبة أمهاتهم ، فيغنيهِنّ ثقلُهم عن وضع حجرٍ، و مِن ثمّ فإن والدتي  الكريمة كانت تستصحبني عند اختلافِها إلى بيتٍ أحدٍ مِن جهة خؤولتنا، و كانت ستائر الهودج تحول دون إطلالي على معالِم الطريق فلم أكن لأتنبه لها،  و لكن كنا نتمتع باهتزازات الهودج المتأرجحة ، و التي كنا نعبّر عن شعورِنا بهذا التمتع في لغتنا المحلية لِ”ديوبند” (ما يعني): ( ما أمتعَ “نوباتِ”  الهودج۔۔!۔۔)

أختى السيدة نعيمة رحمها الله تعالى

و كنا تسعة : إخوانا و أخواتٍ مِن أولادِ سعادة الوالد الكريم رحمه الله تعالى، أكبرهم صاحبة الفضيلة / السیدة نعيمة (الراحلة في ذمة الله ) –رحمها الله تعالى- و كنا ندعوها “آپاجان”[صیغة حبٍ و تعظيم تستخدم  لِلأخت  الكبرى]، و قد سبق تزوجُها ميلادي، كما سبق لها وِلادهُ  بنتَين و ابنٍ قبل ميلادي كذلك ، و كانت سيدة مرِحةً طلِقة الوجه، يتعامل معها سائر أشقائي بكلّ انبساط و انفتاح، و لكن استولي علي مِن هيبتِها منذ فجرِ طفولتي ما جعلني أهابها أكثر من والدتي الكريمة حتى، و لعلّ سبب شعوري بالهيبة تجاهها يرجِع إلى قصةٍ  لي معها ، مُفادُها : أن أختي هذه كانت تساكن زوجَها المغفور له: ” الحكيم السيد شريف حسين ” في بيت واقع على معلاة من محلة مقابِلة لِمحلّتِنا ، تُدعى ” ٹيله” [تعني: التلة]، و كانت تلة صغيرة ، و لكن تتراءى  لنا و لكأنها جبل على أقله۔

و كان زوجها المذكور أعلاه رجلا أنيقا نظيفا ، و يبدو من سِيماه و لكأنه ضارِب   إلى ” رؤساء “مدينة أودھ” ؛ لِمنتهي اعتنائه بأناقة المظهر، و نظافة المنزل ، كان يُولي النظافة في البيت اهتماما أكثرَ من اللازم، الأمر الذي يجعله يتحرّج مِن أخفّ تثنٍّ و التواء يجده على مِلحفه سريرِه ، و کان من دأبي كلما أذهب إلى بيتها،أن أنشغل باللعب مع أبناء أختي الذين كانوا أندادا لي في السن، و قد حدث مرةً و أنا ألعب معهم كالعادة : أن وطأت بقدميّ المتّسختَين ملحفةَ أختي، فنظرت إلي نظرةً شزراءَ ، و قالت : ( بس،لا “تتفضل بقدومك” ۔۔۔!)، و كانت هي المرة الأولى التي مسَّ فيها سمعي لفظةُ ” قدم رنجه ” [كلمة تشريف للتعبير عن القدوم خيرَ مقدَم] ، و مهما يكن تنمّ هذه اللفظة عن معانٍ مِن التهكم و التعريض الخفي، إلا أن نظرتها الشزراء التي استلهمت مد لولَها من مقتضى المقام كان أشد عليّ وقعاً منها –اللفظة-،و كانت مبعثَ هيبة دائمة استولت على قلبي تجاهها ، حتى لم يكن بإمكاني أن أتفادى مع وقعِها إلا بعد أعوام ، حينَ استطعت  الانفتاح معها إلى حدّ لا بأس به، و لم أكن أعلم أن توجيهَ نظرة غاضبة إلى أحد بهذا الشكل يسمّى ” گھورنا” [ ويعني توجيه نظرة شذراء  إلى أحد] ، و إنما اطلعت على مدلوها حينَ حكت أختى هذه القصة على سائر إخواني ، فكان أول عهد لأذني بهذه الكلمة ،و كانت هي كبرى أخواتي ،  وافتها المنية و لها من العمر أربع و ثلاثون، و كنت يومَئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة، أسكنها الله تعالى فراديس جنانه ، و أفاض عليها من نعیمها و رَوحها و ريحانها، فلقد كانت مثالا فذا  من الإباء و المثابرة على قلة ذات يدها و حتى في أشد أيامِها من الناحية الاقتصادية ، و هنا قصة أخرى من حياتها تفرض نفسَها على بساطِ الكتابة


متواصل…………….

[1]۔و أحمد الله أنه وفقني لتسجيل  ترجمة حياته بشئ من التفصیل فی کتابی ” والدی  و شیخی” (أو ” والدي الماجد  منهجا و ذوقا ) ، كما صدَر تحت إدارتي  العدد الممتاز لمجلة البلاغ الأردية   لدراسة حياته ، و قد احتوى على عدة مقالات ، منها مقالة  مستفيضة لشقيقي الاكبر العلامة المفتي محمد رفيع العثماني حفظه الله تعالى، حيث  عُني فيه بدراسة جوانب مهمة من حياة والدي الماجد، كما ألقى الضوء على  تاريخ أسرتنا أبا عن جد، و قد تم طبع  هذه المقالة مفردَة كذلك(باسم :” حياة  المفتي الأعظم)

[2]۔”آدینی” یعني  في اللغة الفارسية ” الجمعة”، و المعني المسجد الذي تقام فيه الجمعة

[3]۔ وُلد جدي العلامة محمد ياسين رحمه الله تعالى، قبل تأسيس جامعة دارالعلوم  ديوبند ،بسنةٍ عام 1282ھ،فكان  نِدّا لدارالعلوم ديوبند، حيث كان  عمرُه يساوي عمرها،  و قد حكا لي  والدي الماجد رحمه الله تعالى  من أقوالِه مقالةً  غیر مرۃ،مُفادها : ” أنا شهدنا  في دارالعلوم ديوبند العهد الذي  كان  تسود فها الجامعةَالولاية  ،و تهيمِن عليها صبغة الربانية، رئاسة ً و أساتذةً و طلابا و عمّالا ، حيث كنانحسب الكل  ، أخذا من رئیس الجامعة إلى أدنى حارس على الباب  وليا من أولياء الله ، حائزا علی  نسبة الولاية الربانية “، و كان سماحته من أخص خلفاء قطب الإرشاد العلامة الفقيه رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله تعالى، كما كان من زملاء حكيم الأمة العلامة محمد أشرف على التهانوي في الدرس، و ظلّ مدرّسا للغة الفارسية  و فن ّ الحساب طوالَ حياته في جامعة دارالعلوم /دیوبند،و تخرّجت عليه عدة أجيال أبا عن جد، و قد   كتب َ والدي الماجد رحمه الله تعالى سيرته في كتابه : ” والدي الماجد ” ببسطٍ و تفصيل