تعريب: عبدالوهاب سلطان الدِّيروي
﴿ عضورابطة الأدب الإسلامي (الرياض) ﴾

ذِکرَیات
للعلامة الفقیه الشیخ محمد تقی العثمانی﴿مد الله فی حیاته﴾
﴿الحلقة السابعة﴾

(سلسلة ترجمة و تعريب “ذكريات ” لشيخنا العلامة العثماني- حفظه الله تعالى – ، وقد تفضل سماحته بتسجيل ذكرياته العطرة التي تغطي حوالي نصف قرن وما يزيد من حياته المعمورة بالأعمال الإبداعية الموفقة في أسلمة شتى شُعب الحياة المعاصرة المتحركة ، قد كان الإلحاح على الشيخ دائما مستمرا ، ولکن أبى الشيخ المتواضع أن يرى نفسه تليق أن تذكر في سجلات الذكريات و التراجم ، إلى أن قيّض الله تعالى العلامة أحمد الخانفوري الهندي ليقنِع شيخنا العلامة بذلك، فقام بفتح هذه السلسلة الشيقة من ذكرياته نزولا عند رغبة العلامة الشيخ الخانفوري حفظه الله تعالى ، ولينفض به غبار اللبس عن وقائع من حياته، قد اشتبهت ملابساتها على بعض الأفاضل المترجمين لحياته والمعنيين بذكر جهوده وأعماله، وقد شرعنا في ترجمة حلقاتها المنشورة في صفحات “مجلة البلاغ الأردية” إلى اللغة العربية ، بإذن شفوي من صاحبها قبل ظهورها إلى حيز النشر ،جزاه الله تعالى عنا كل خير ، ونفعنا بعلومه وبركاته۔ المترجم)

هؤلاء هم كانوا إخوتي وأخواتي الذين أوجزت التعريف بهم أعلاه، و أنا أصغرهم سنًا،و كما أسلفت ذكراً أني وُلدت لخمس خلون من شوال سنة ۱۳۶۳من الهجرة، لحين قد مضى على رحيل حكيم الأمة الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى قرابةُ ثلاثة أشهر. ومن ثم فإن سائر إخوتي و أخواتي سعِدوا إما بزيارة حضرة الشيخ أو أنهم تشرفوا بوقوعهم موقعَ نظرات عنايةِ حضرة الشيخ على الأقل، و كنت أنا من حُرِم كلتا هاتين السعادَتين، إضافة إلى أن أسماءَ جميعهم تعيّنت باقتراحٍ من حضرة الشيخ، و لم يكن طبعاً من المحتمل أن يقترح لي اسمًا، و لكن كان من أمر والدي إذا رُزق ولدًا أن يلتمس من حضرة شيخه اسمًا يسمّيه به، و كان حضرته عادةً مّا يضع أمامَ والدي قائمةً من الأسماء المقترحة ذات قافيةٍ واحدةٍ ، ليختار منها الوالد الكريم ما يحلو له، و كان من بينها الاسم ” محمد تقي ” ، الذي لم يُسمَّ به أخ لي قبلي، و يبدو لي أن الوالد الكريم اختار اسمي من تلك القائمة التي اقترحها حضرةُ شيخه. وأكبرُ ظني أن الوالد الكريم ربّما لم تفته أن يستشير في ذلك أستاذه الحبيب ومربيه الكريم الشيخ السيد أصغر حسين الديوبندي ( المعروف ب” مياں صاحب”) هو الآخر، والذي كان مرجعًا لوالدي الكريم بعد وفاة حضرة شيخه العلامة التهانوي، فكان یستیشره في شئونه. وكان من الأولياء المزوّدين بالكشف والكرمات.
و كبار إخوتي الثلاثة كانوا دارسين في جامعة دارالعلوم/دیوبند. و لم أكُن قد شرعتُ بعدُ في دراسة ” القاعدة البغداية ” [ كتيّب معروف في الديار الهندية و الباكستانية لتعليم حروف التهجي] ، فضلا عن الدراسة الرسمية في الجامعة، و لكن قد كان يحدث أن أرتاد الجامعة مع إخوتي الكبار هؤلاء. ومن هنا ارتسمت في صفحة ذهني صورة ضاحلة و ضئیلة للجامعة يومَئذٍ.
ما أمتع ذكريات زهرة الحداثة في حضن الأم !
و كان يقع في مؤخرة بيتنا ( إلى جهة الغرب) بيت جدنا الشيخ محمد ياسين رحمه الله تعالى. تقطن فيها جدتي رحمها الله تعالى ( و كانت مبايعة لدى العلامة رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله تعالى)، و يتوسط كلا البَيتَين طريق أشبه بالنفق، نسميها ” نيم درى” [ يعني نصف الباب]. و تتصل بهذا البيت الأسري العريق سلسةٌ من بيوت الأسرة، تخلص من بينها سكّة ضيقة إلى منطقة أوسع مساحةً نسبيّا، و هذه المنطقة هي ما كنا نسميها ” چوك” [ مفترق الطرق]. و كان يُعرف بينَنا نحن -معشرَ الأطفال- بساحة ملعب لا تقلّ –وفق التصور الصبیاني يومَذاك- عن ” إستاد فسيح”، يلعب فيه الأطفال من طول الحي ألعابًا لا تكلّف أحدَهم أي تكلفةَ فلسٍ و لا تُحوجهم إلى تعلّمها من “مدرّب”. و كان إخوتي الكبار عادةً مّا يمارسون الألعاب المحلية في هذا المعلب . و أما أنا فقد كانت هي كلّ عالمي الذي كنت أعيشه ما بين البيت و هذه الساحة، حيث كنت أُسلـي نفسي بمشاهدة اللاعبين أكثر من ممارستي اللعبَ شخصيًا.
و كما ذكرت سابقًا أن أولادَ أختي الأربعة ( ثلاثة من بنات أختي و واحد ابن اختي) كانوا يكبُرونني سنًا بفاصلِ سنة إلى ثلاث .ومن ثم لم تكن بي حاجة إلى إحداث صداقة خارج حدود أسرتي، فقد کانت تربطني بهؤلاء علاقة شبه الصداقة، تدور ألعابي معهم. و كانت لعبة ” آنکھ مچولى” [ لعبة هندية باكستانية شعبية، تمارَس في الأغلب بحيث يختفي فيها طفل فیخرج الباقون بحثًا عن مكانه الذي اختفى فيه] هي أكثر ما تناسب أعمارَنا، ويكفي لممارستها حدود البيت دون أن نخرج من أجلها إلى ساحة ” المفترق”.
و كانت لعبة
گولى ڈنڈا” [ لعبة محلية هندية تمارَس بخشبة منحوتة في جهة الطول وأخرى طويلة كالعصا، تشبه الكريكت من بعض الوجوه] كانت خارجةً عن نطاق استطاعتنا ،على أنّي لم أتمكن بعدُ من أن أكسب في مجال الألعاب أي مهارةً تلیق بالذکر.
وكنت أصغرهم. وربما هو الذي جعلني أحبَّهم إليهم، و كان الكل أخذًا من أبويّ إلى سائر الإخوة والأخوات يذكرون من قصص ذكائي في مثل هذا السن المبكر ما لستُ أدري: هل كان ذلک من ثمرات هذا الحب و الدلال أم كانت ضربًا من الحقيقة. وكانوا يسردون للتدليل على هذا الذكاء جملةً من قصصي التي لا زلتُ أتذكرها ولَكأنها حديث اليوم. وإن قلمي يُلحّ علي أن أحكي لكم بعضّا منها عسي أن تتمتّعوا بها….!

متواصل……………