من هم المرابطون على ثغر الدين في ديارنا؟

مستخلَص من كلمة فضيلته البليغة التي ألقاها فضیلة المشرف العام للمجلة من على منبر الجمعة بجامع دارالعلوم كراتشي في فترة ما بعد حادث “باجور” المؤلم الذي ذهب ضحيةَ التفجير فيه عشراتُ العلماء الشرعيّون، وتطرّق سماحتُه في خطابه الصريح البليغ إلى الدور الفريد المتميز الذي يلعبه علماء المدارس الدينية في خدمة الدين والمحافظة على تعليمه الشرعي، وقد راجع فضيلته صيغتَه العربية ووثّقَها، جزاه الله تعالى خيراً)

 

إذا سألنا من هم المرابطون الحقيقيّون الذين يحافظون على الدين وهويّته ومبادئہ في ديارنا الباكستانية؟ ومن هم أولو الفضل الذين تركوا مصابيحَ أحكامه وشعائرہ ساطعةَ النور ويثابرون على ثغور دينه ليلَ نھارَ في غير تعب ولا سآمة ؟  وما هي الجهات التي تعمل على إحياء معالمه ومآثرہ في همة وعزيمة؟
هل هي هذه الأساكيل والكليات والمعاهد الإنجليزية التي تعلـّم أجيالَنا مباديء دينهم وصلاتهم وصيامهم؟
وهل هي هذه المؤسسات التعليمية العصرية التي تهتمّ بإرشاد الناس في شئون دینہم ؟
وهل هي وزارة التعليم والمعارف العملاقة التي تُحافظ على شعائر الدین في ربوع الدولة؟
الجواب واضح معلوم، ليست أيّ واحدةٍ ممّا ذكرنا تُلقي بالاً  على شأن الدين وعلى إحياء معالمه وترويجه وتبليغه وتعليمه…!
وسنتوثّق أكثر من هذا إذا قُمنا بإحصائيّة بسيطة في جامعات الدولة وكلياتها وأساكيلها العصرية لندرسَ: كم هي المؤسّسات التي يتمّ فيها تعليمُ الصلاة وصفةُ أدائها وشروطها وأركانها؟
وهل منها ما يهتمّ بتربية الجِيل المسلم على أحكام الزكاة والحج؟  وكيفية أدائہما ؟
وهل هناك مؤسسة حكومية تُعلّم النشء الجديد أحكام الغُسل؟ متي يكون واجباً أو لا يكون؟
ثم هل يشمل مقرّرها الدراسي: ما ھي أحكام التعاملات المالية التي يتعاطاها أيُّ مسلم في حياته اليومية؟ وما هي أحكام التوريث التي تؤول إلى كل مسلم بعد وفاته؟ وكيف يجب أن توزّع المواريث وأنصبائها بينهم؟ وهكذا دواليك.
مع الأسف البالغ فإنَّ هذه المؤسسات التعلمية العصرية التي تبتلع المليارات من ميزانية الدولة كل سنةٍ لا تفي بحاجة التعليم الشرعي وأساسياته؟ هذا في دولة مسلمة نشأت باسم الإسلام ومن أجل الإسلام.
فإذا سألتَ خرّيجيها “المثقّفين” عن أبسط الأحكام الشرعية وحتى عن مباديء فريضة الصلاة وما يجب فيها من قراءة القرآن ولو بحجم سورة الإخلاص ! تجدهم صُمًّا بُکماً. وقد تجد الكثير من رجال الحكومة ووزرائها وعساكرها لايُحسن أحدهم أن يقرأ سورةً قصيرةً أو يصلّيَ جنازةً  إلاّ من رحم ربّي.
إنّها الأحكام الأساسية التي يحتاج إليها كل مسلم في كلّ خطوة من حياته وحتی مماتہ، ولكنَّنا مع الأسف نفتقد عنايةَ مؤسساتنا الحكومية بتوفير أيَّ نظامٍ تعليميّ منشود يملأ هذا الفراغ. لا نجد هنا ما يتكفّل بتزويد أجيالنا الصاعدة بأساسيات الدين فضلاً عن تثقیفهم بالثقافۃ الشرعیۃ العُلیا التي تُخرّج علماءَ الشريعة وخطباءَ المنابر ومُصلحي المجتمع.
صحيح أنَّ هناك حصة دراسيّة بعنوان ” الإسلاميات” (Islamic studies) في الجامعات العصرية ولكنَّها لا تتجاوز مُدارَسة بعضِ الأحكام الإجمالية التي لا تُبِلّ حاجةَ المسلم فيما يحتاج إليه من أمور الدين، ويتمّ التعامل معها كحصة إضافية لا تُشبع حاجتَه الدينية الأساسية فضلاً عما تسبّب به من زرع حالة استخفاف أحياناً والعیاذ باللہ.
رغم هذا الوضع المأساوي :  نجدُ مساجدنا عامرةً بالصلوات والعبادات وحلقاتِ التعليم،
ونجد مآذنَنا ترفع أصوات التهليل في فضاء الكون ونجد منابرَنا تصدع بالحق ولا تخاف لومةَ لائم،
ونجد معالم الدين حیّةً معمولاً بہا في حياة الناس عامتهم وخاصّتهم وشعائرَه باقيةً خالدۃً لا یستطيع أحد مسّها بسوء…ّ
السؤال الذي يفرض نفسَه هنا : أيُّ خَلقٍ هذا الخَلق الذي يعمل على إحياء معالم الدين في ربوع الدولة من رياح الاندراس؟ ويَقي شعائرَہ من تحدّيات الانقراض؟
وأيّةُ مؤسّسةٍ هي هذه المؤسسة التي تعمل على إبقاء مصابيح الدين مضيئۃً؟
ما الذي يُحي الدينَ بمبادئِہ وشعائِره حياًّ ساريَ المفعول في نفوس أبناء الوطن من أقصاه إلى أقصاه؟
الجواب واضح ملمسوس ومشاھَد.
إنّها هذه “المدارس الدينية”  التي تنتشر شبكتُها في ربوع الدولة، والتي يربطها “منظّمة وفاق المدارس العربية” في خيطٍ واحدٍ من أقصى أطراف الدولة إلى أقصاها.
وإنّها هذه المدارس الشعبية التي لا تُكلّف خزينة الدولة فَلساً واحداً.
وإنّها هذه المدارس التي يُديرها هؤلاء العلماءُ الربانيون الذين يواصلون الليل بالنهار ويدرّسون فيها رغمَ التحدّيات المادّية والمعنويّة.
وإنّها هذه المدارس التي يدرُس فيها هؤلاء الطلاب الذين يَفِدون عليها من أطراف الدولة ومن شتى الأقاليم يتلقّون علومَ الشريعة على أيديهم ويتفقّهون في الدين ثم يُنذرون قومَهم إذا رجعوا إليهم ويعلّمونهم مباديء الدين وأحكامه ويؤمونهم في مساجدهم ويُرشدونهم من على منابرهم راضينَ من معاشهم بالكفاف في غير طمعٍ ولا طموح، لعلَٓهم يحذرون.
هذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن هذه المدارس نجحت في هدف تأسيسها والذي كان يتمثّل في إعداد كوادر مؤهّلة لترشيد الشعب المسلم في شئون دینِہم.
وإذا قارنّاها بمؤسسات التعليم العصري التي كانت سبب تأسيسها صناعة علماء العلوم الطبيعيّة وما يدور في فلكها وتخريج الكوادر القادرين على اكتشاف خزائن الأرض لصالح الدولة؟
فهل فعلوا ذلك؟ . الجواب مؤسِف.
رغم استهلاك المليارات من خزينة الدولة إلاّ أنها لم تنجح بعدُ بإعداد خُبراء  محترِفين يُحسنون اكتشاف معادن الذهب التي تزخر بها أراضي دولتنا الغنيّة الثرية ليوظّفوها بمهاراتهم العلمية وقدراتهم الفنية التقنية في مشاريع تنموية تخدم مصلحةَ الوطن.
دونكم -مثلاً-  مشروع الاستثمار المعدنی لمنجم “ريكودك” (RECODIC الذهبي الذي ظهر في إقليم بلوشستان، ولم تجد الدولة -رغم أجهزتها الحكومية الضخمة ومؤسساتها التعلمية العملاقۃ- من يعمل على استخراجه، فاضطرّهم ذلك إلى عقد معاهدات مع شركات دول أجنبية، نصفاً بنصفٍ.
هكذا -بمنتهى الثقة- يدعونهم ليأكلوا نصفَ خيراتِ أرضنا.
وليت عمري لو خرّجت جامعاتنا العصرية -التي تكلّف ميزانيةَ الدولة المليارات- مَن  يُحسن اكتشافها واستغلالَها لتكفّلت بتسديد مصاريف الدولة بأكملها وأغتنا عن تكفُّف الدول الغنية الجائرة، ولکن ھیھات !
هكذا يعجزون في أهدافهم التعليمية ثم يهبّون ليلقوا باللوم على مدارسنا الشرعية ويرموها بالتخلّف عن متطلّبات العصر !
المدارس الدينية تخرّج الآلاف من هؤلاء العلماء والخطباء والمصلحين على حسابها وعلى حساب المساعدات الشعبية المخلصة؛ ومن ثَمَّ فإنَّ ميزانيات الدولة التي تنشر كلّ سنةٍ لا تخصّص من نصابها  قطميراً ولا نقيراً لصالح هذه المدارس ولصالح التعليم الشرعي الذي يُعدّ الحاجةَ الأولى لأي مسلم.
وقد لا يوجد في سجلّ الحكومة ما يُقرّر أنها أقدمت على بناء مسجد ! لأنّ المساجد كلّها تبرّع ببناءها الشعب المسلم، ثمّ الذين يعمرون هذه المساجد بالإمامة والخطابة وتنظيم حلقات التعليم الشرعي والوعظ الديني كلّهم خريجوا هذه المدارس الدينية، ولن تجد فيهم أحداً تخرّج في جامعة أو كلية عصرية لِيتولّى مهمة الترشيد الشرعي فيها.
قبل فترة، صادفتُ في إحدى رحلاتي في جبال سوات النائية والمعزولة عن عمران الحضارة والمدنيّة لافتةً على حافة طريق ضيّقة وعِرة یصعُب تخطـِـیہا.
حملت اللافتة عنوانَ كُتّاب ديني لتعليم القرآن الکریم. القرية كانت مجموعةَ بيوت من طين وآجرّة شذرَ مذرَ، وجدتُ هناك مسجداً مقروناً بحجرة يہتمّ فيها خريجُ مدرسة دينية بتعليم الأطفال أمور دينيهم.  ولم أجد في عموم تلك القرية مستشفی ولا محلاّ تجاريٓاً ولم أجد للأساكيل العصرية اسماً ولا رسماً، ولكن وجدتُ فيها مسجدَين يرفعان ذكرَ الله تعالى.
إنها نَتاجُ هذه المدارس الدينية وحصادُها والتي تعمل على إعداد رجال يُوقفون أنفسهم لخدمة الشريعة الإسلامية مهما كانت الظروف ومهما كانت التحدّيات.
وقد أدرك أعداء الدين والوطن قوة هذه المدارس وخطورتها وسرّ حيويتها. وبالتالي فإنّها ظلّت تكيد للنيل منها بشكل أو آخر. وعمِلت مؤٖخّراً على زرع فئة من الشباب الغُرّ  المحسوبين على اسم الإسلام -والإسلام عنه براء-. عجزوا عن ضرب المسلمين مباشرة فزرعوا فيهم من يضربهم باسم الإسلام. ومن ثَمَّ تتحيّنُ هذه الفئةُ استهدافَ العلماء الربّانيين تحت غطاء الدين ومتستّرين بظاهرٍ من بعض النصوص التي لم يفقهوها، والواقع المرير الذي شاهدناه في مجزرة “باجور” خير دليل على ذلك حيث ذهب ضحيتَها غيرُ واحد من علماء الشريعة الذين تخرّجوا في هذه المدارس، ولكنّهم لم يَرو بأسا -والعياذ بالله- في تفجيرهم وبدون أدنى رمق من الرحمة والإنسانية. ھنا يجب أن نتبّه أوّلاً- لهذه المكائد
وثانياً:ولیشوّهو دورَ المدرسة ورجالها، فقد عمِلوا على إهانة لقب” الملاّ” الذي کان یُطلق عادۃً علی خریج ھذہ المدارس، و كان رمزاً للفخر والاعتزاز العلمي في سابق الزمان، كما سُمٓي به كبارُ أئمة العلم بحجم الملا علي القاري، ولكن الأعداء كثـَفوا دعايتَهم ضدـَ هذا اللقب العلميـ الشريف ، فحوّلوه إلى معنى سيٍّ، وربطوه بالرجعية وجعلوه رمزاً للتخلف، ووَسَموا حاملَه بالشخص الضيـق الأفق الذي لا يتجاوز فهمُه حدودَ صومعته ومئذنتہ التي يرفع فيها الأذان.
ومن هنا عبّر الشاعر إقبال عن الإنكليز بلسانهم:
“أذا أردتَ معالجة الحميةَ الدينية المركوزة في الشعب الأفغان ومحوَها، فالحلّ يكمُن في طرد “الملاّ” من صفوفهم وأراضيهم”
ومن ثمّ يرون ” الملاّ” أكبر عقبة في طريقهم لأن ” الملا” الذي تُخرٓجه هذه المدارس هو السبب الأول والأخير في المحافظة على حدود الدين وروحه وأحكامه وشعائره ینفی عنه تحريفَ الغالين وانتحال المبطلين وكيد الكائدین.
هذا، وكلُّنا أمل ودعاء أن تكون كلمةُ الله هي العُليا، وماذلك على الله تعالى بعزيز.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
(تعريب وتلخيص: عبدالوهّاب)