زاوية “الخانقاه الامدادي” للإمام المجدّد الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى: نبذة من خصائصها ودورها التجديدي في مجال التصوف والسلوك

كان الناس في أمر التصوف والسلوك ما بين إفراط وتفريط ، فطائفة تزعم أن التصوف والسلوك من البدعات المحدثة، ليس له أصل في الكتاب والسنة ، وأخرى تعتقد أن التصوف والسلوك اسم لبعض الكشوف والمواجيد والإشراقات التي تعترض لسالك هذا الطريق ، وأن هذه الأحوال والتجارب النفسية هي المقصودة بالدين ، ومن فاز بها تخلص عن ربقة الأحكام الشرعية الظاهرة ، والذي صدرت منه بعض الشعوذة والتصرفات أو ظهرت له بعض الكشوف والمواجيد في اليقظة أو المنام اتخذه الناس قدوة وإماما ، مهما زاغت عقيدته أو فسدت أعماله وأخلاقه.
ردّه نظريًّا وعمليًّا على فكرتَي الأفراط والتفريط:
فقام حكيم الأمة الشيخ محمد أشرف علي التهانوي رحمه الله بالرد على هاتين الفكرتين نظريا وعمليا . أما نظريا فقد أثبت في كتبه وخطبه ومواعظه ومجالسه أن التصوف والإحسان جزء من أجزاء الدين وشعبة من شعب الإسلام ، وأن أحكام الكتاب والسنة تنقسم إلى قسمين:
، قسم يتعلق بالأعمال الظاهرة التي تصدر من الأعضاء والجوارح مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج والنكاح والطلاق وما إلى ذلك من الأحكام الشرعية التي بسطها الفقهاء في كتبهم.
والقسم الثاني من أحكام الكتاب والسنة يتعلق بالأعمال الباطنة التي محلها القلوب والأرواح وفيها مأمورات ومهيات ، أما المأموراث فمثل الصدق والإخلاص ، والخشية والرجاء ، والشوق والأنس ، والصبر والشكر ، والتواضع والخشوع ، وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإنابة والإخبات إليه تعالى ؛ وما إلى ذلك ؛ وأما المنهيات فمثل الرياء والسمعة ، والعجب والتكبر ، والحقد والحسد واليأس والقنوط ، وحب المال والجاه ، وكثير من أمثالها . فالتصوف إنما يعتني بهذا القسم من الأحكام الإلهية كما أن الفقه يعتني بالقسم الأول منها ، وإن القرآن والسنة مليئان بالنصوص الواردة في هذا الصدد ؛ غير أن الأحكام التي تتعلق بباطن الإنسان لا يمكن امتثالها عادة إلا بتدريب وتمرين ، وتربية ومراس ؛ لأن الأمراض الباطنة مثل الرياء والعجب وغيرهما أمراض خفية ربما لا يدركها المريض بنفسه ، وإنما يحتاج لإدراكها إلى رجل عارف محنك يشرف على حركاته وسكناته ، وأعماله وخواطره ، وأفكاره ووساوسه ، وهذا الرجل المشرف يسمي في التصوف شيخا ، والرجوع إليه بيعة . وأما هذه الكشوف والخوارق ، والشعوذة والتصرفات ، والرويا والمواجيد ، فأثبت الشيخ التهانوي رحمه الله أنها ليست من التصوف في شيء . لا شك أن الله سبحانه وتعالى قد أظهر بعض الكرامات على أيدي الصحابة والأولياء ، ولا ريب أنه تعالى قد من على بعض عباده بالكشوف الصادقة ، ولكنها ليست مقصودة في الدين ، ولا حجة في الشرع ، ولا شاهدة لصاحبها بالولاية والتقوى والتقرب إلى الله ، فإن أمثال هذه الكشوف والتصرفات لا يشترط لها الصلاح والتقوى ، بل ولا الإسلام والإيمان ، فإنها ربما تحصل بالتمرين والممارسة للرجال فسفة كفرة ، كما هو مشاهد من أصحاب میسمرزم ..
ما هو المقصود بالتصوف؟
فالمقصود في التصوف إنما هو التخلق بالأخلاق الفاضلة ، واجتناب الرذائل النفسية ، والفائز الناجح في هذا الطريق هو الذي تحلّي بهذه الفضائل مع الامتثال التام للشريعة الإسلامية، والاتباع الكامل للسنة النبوية ، فإن أعطاه الله بعد ذلك نصيبا من فراسة الإيمان ، أو حظا من الكشوف الصادقة ، فهو منة زائدة من الله تعالى ، وأما الذي حرم من هذه الأخلاق الفاضلة واتباع السنة النبوية ، ولم يجتنب هذه الرذائل النفسية ، فهو بعيد كل البعد عن التصوف والطريقة ، والولاية والسلوك ، سواء كان يطير في الهواء ، أو يمشي على الماء ، أو يرقي في السماء . فهذه الفكرة السليمة المعتدلة في أمر التصوف مبسوطة في شتى مؤلفات الشيخ التهانوي ومواعظه بدلائلها من الكتاب والسنة ، وشواهدها من سير الصحابة والأولياء ، وحججها من العقل السليم والتجارب النفسية ، ودفع ما يثار حولها من شبهات وتطبيق أعمال الصوفية الكبار على الكتاب والسنة بما يطمئن القلوب ويثلج الصدور ، ولا يدع مجالا للإنكار إلا لمكابر جاهل أو معاند متجاهل .

وأما عمليًا فرد الشيخ على هاتين الفكرتين بعمله الموافق للسنة المحمدية وتربية مسترشديه على منهاج الشريعة ، فكان كلما رجع إليه أحد للبيعة أمره أولا بأداء واجبه في الشريعة ، سواء كان من حقوق الله أو حقوق العباد ، وكانت عنايته بحقوق العباد أكد وأكثر ، لما شاهد حال كثير من الناس أنهم يواظبون على العبادات ويكثرون من ذكر الله ، ولكنهم يقصرون في حقوق العباد ، ويخالفون الشرع في كثير من المعاملات ، وكذلك كان اهتمامه بتعليم آداب المعاشرة أكثر من اهتمامه بتعليم الأوراد والأذكار وسائر التطوعات.
وكان يقول : ” إني أصرف أكثر عنايتي إلى أن لا يؤذي أحد منى أو من أصحابي ، سواء كان ذلك الإيذاء بدنيا ، كالضرب والنزاع ، أو ماليا ، كغصب الحقوق والأكل بالباطل ، أو ما يتعلق بعرضه كإهانة رجل واغتيابه ، أو نفسيا ، مثل أن يترك أحد غيره في اضطراب وتشويش أو يعامله بما يكرهه ، وإن د رشيء من ذلك خطأ فالواجب أن يبادر إلى طلب العفو والصفح.
وإني أهتم بهذه الأشياء أكثر من اهتمامي بغيرها ، حتى لو رأيت أحدا يخالف الشريعة في وضعه الظاهر فإن ذلك يحدث في نفسي نوعا من الألم ، وأما إذا رأيت أحدا لا يبالي بأداء هذه الحقوق ، فإنه يحزنني حزنا شديدا ، وأدعو الله تعالى له بأن ينجيه من هذه الموبقات(۱).
ويقول في موضع آخر : ” إن رأس الخلق الحسن وأساسه أن يهتم الرجل بأن لا يتأذي به أحد ، وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الجامع : ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ” ، وكل ما كان سببا لإيذاء أحد فهو داخل في سوء الخلق ، سواء كان صورته صورة خدمة أو أدب وتعظيم مما يزعمه الناس حسن خلق ، لأن حقيقة الخلق الحسن هي إراحة الغير ، وهي مقدمة على الخدمة ، فالخدمة بغير الإراحة قشر بلا لب . وإن آداب المعاشرة ولو كانت متأخرة عن العقائد والعبادات من حيث كونها شعائر للدين ، ولكنها مقدمة على العقائد والعبادات من حيثية أخرى ، وهي أن في الإخلال بالعقائد والعبادات ضررًا لنفس الإنسان ، وفي الإخلال بآداب المعاشرة ضررا ً لغيره ، وإضرار الرجل غيره أشد من إضراره نفسه ، ومن ثم (۲)قدم الله تعالى قوله : « الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما(۳) )
الذي فيه تعليم آداب المعاشرة على قوله : « والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما »
الذي فيه تعليم العبادات وغيرها ، فالمعاشرة الحسنة مقدمة على الفرائض من بعض الوجوه ، وأما تقدمها على التوافل فثابت بجميع الوجوہ(۴) ” .
ولم تكن عند الشيخ التهانوي رحمه الله نظريات محضة وأفكار خاوية ، وإنما كانت هذه النظريات متجلية في أعماله وحياته ، بل وفي حياة مسترشديه.
دار تربية فريدة من نوعها:
فكان ” الخانقاه الإمدادي ” دار تربية فريدة في منهجها في العالم ، تهذب فيها الأخلاق ، وتثقف فيها الأفكار . وتعلم فيها آداب الحياة الفردية والاجتماعية ، يجتمع فيها المسلمون من أنحاء الهند وجوانبها ، فيهم العلماء والمشايخ الكبار ، وفيهم الأطباء والمهندسون ، وفيهم الموظفون والمدرسون ، وفيهم أصحاب الزراعة والصناعة ، وفيهم رجال من جميع مجالات الحياة ، يأتون إليه ويسكنون عنده فترات طويلة ، وربما تكون معهم الزوجات والأولاد ، فيشرف الشيخ على أحوالهم ، ويعلمهم الدين ، ويدربهم على الأخلاق الإسلامية . ويصف لهم طريق الحصول عليها ، ويمرنهم على آداب المعاشرة ويشرح لهم دقائقها ، ويلفت أنظارهم إلى أمراضهم النفسية ، ويبين لهم طريق التخلص منها . وكان لهذا الخانقاه نظام تحكم في كل شيء ، لا يستطيع أحد أن يخالفه ، وكان هذا النظام نفسه مثالا حيا لآداب المعاشرة الإسلامية يحض المرء على أن ينظم حياته ويضبط أوقاته ويعني بأداء الحقوق والاحتراز عن إيذاء الآخرين.
مصنع يصنع فيه الرجال:
. حتى صارت هذه الزاوية مصنعا كبيرا يصنع فيه الرجال ، وتصاغ فيه الأخلاق الحسنة والآداب الصالحة ، ولو شرحنا هذه الأخلاق والآداب التي كان يلتزمها الشيخ ويدرب عليها غيره لطال بنا الكلام ، ولكننا نود أن نورد للقارئ الكريم بعض الأمثلة من سيرته وعادته ، حتى يتضح هذا الموضوع بعض الاتضاح :.
أمثلة من سيرته وعادته:

  1. ۔كان رحمه الله كلما احتاج إلى أن يكلم أحداً ، أو يأمره بأمر ، لم يطلبه إلى نفسه أبدا ، بل مشى إليه بنفسه ، سواء كان تلميذه أو مسترشده أو من صغار أقاربه ، و
    كان يقول : ” الواجب أن يذهب المحتاج إلى المحتاج إليه ، ولا يعكس الأمر وكان طبيب من الأطباء الحكيم محمد هاشم من أصحابه وخلص مسترشديه ، يتردد إليه كثيرا ، ولكن الشيخ كلما احتاج إلى أن يصف له بعض أحوال مرضه ذهب إليه بنفسه ما لم يتعذر ذلك لمرضہ(۵) . “
  2. ۔كان لا يأمر خادما من خدامه بأمرين معا ، وإنما كان يأمره بأمر ، ثم يأمره بآخر بعد فراغه من الأول ، وكان يقول : إني أفعل ذلك لئلا ينقل على الخادم حفظ الأمر الثاني ، فأحتمل مشقة الحفظ بنفسي ، ولا أكلف بها الخادم ” ( أيضاً )
  3. ۔كان لا يشفع لأحد إلا بحق ، ولو علم أوظن أن ذلك يثقل على المشفوع إليه لم يفعله أبدا ، وكان يقول : ” إن الناس عامة يُراعون في أمر الشفاعة جانب المشفوع له ، ولا يراعُون جانب المشفوع إليه مع أن إعانة رجل أمر مستحب والاحتراز عن الإيذاء واجب ، فكيف يجوز ترك(۶) واجب لحصول مستحب ” ؟
  4. ۔كان لا يلحّ على ضيف من الضيوف بالإكثار من إقامته عنده بغير رضاه ، سواء كان الضيف من أحب الناس إليه وإقامته من أحب ما يهواه ، وكذلك لم يكن يجبر الضيف على الإكثار من الطعام بخلاف رغبته ، لئلا يثقل عليه ذلك.
  5. ۔كلما كتب إلى أحد رسالة وفيها استفسار من المكتوب إليه ، وضع فيه لفافة معنونة مع طوابع البريد للجواب ، سواء كان المكتوب إليه من تلامذته أو صغار أقرباءه.

هكذا كان يراعي رحمه الله دقائق الأمور في آداب المعاشرة ، وله فيها تأليف مستقل ، وكانت حياته وحياة مسترشديه ونظامه في الخانقاه الإمدادي تفسيرا عمليا لهذه الآداب الإسلامية ، حتى كان الناس يعرفون أصحابه برعاية هذه التقائق في الأخلاق والمعاملات والمعاشرة . وهكذا عاش رحمه الله تعالى ثماني وأربعين سنة في ” الخانقاه الإمدادي ” يفيد الناس بعلمه ومواعظه وتصانيفه وتربيته ، إلى أن توفاه الله تعالى في شهر صفر سنة 1362 من الهجرة النبوية ، تغمده الله تعالى بمغفرته ورضوانه وأسكنه أوساط جنانه ..


(۱) (مترجم من ” أشرف السوانح ” 2 : 179)
(۲) [ الفرقان : 63 ]
(۳) [ الفرقان : 64 ]
(۴) ( مترجم من ” آداب المعاشرة ()
(۵) ( أشرف السوانح 2:43 )
(۶) سيرة أشرف ، ص: 280)