ترجمة :عبدالوهّاب الدیروی
﴿ قسم التخصّص فی الإفتاء بالجامعة ﴾

ذِکرَیات
للعلامة الفقیه الشیخ محمد تقی العثمانی﴿مد الله فی حیاته﴾
﴿الحلقة الثالثة﴾

على الرغم من انتمائي الديوبندي منهجا و مسلكا ، فإن االتصریح بعزو نفسي إلى “ديوبند”في خطاباتي أو كتاباتي ، تمثلا بهذا الانتماء۔۔۔أمر كان و لم يزليحِزّ في قلبي ؛لأني أجد في هذا العنوان شُمّة من الطائفیة ، و إن بعض الناس يجرّهم هذا الشكل من العناوين إلى سوء تفاهم بالنسبة  للمنهج الديوبندي ، فيزعمون أن الانتماء الديوبندي يمثِّل فرقة من الفرق التي حادت عن السواد الأعظم للأمة ، و شقت لنفسها طريقا فكريا غير طريق المسلمين ، و الواقع أن العلماء المنتمين للجامعة الإسلامية (دارالعلوم ديوبند) و مدرستها الفکریة يفسّرون الكتاب و السنة النبوية المطهرة ذلك التفسير الوسطي المتّزن  الذي لم يزل متوارثا في هذه الأمة منذ أربعة عشر قرنا ، إنهم لم يُحدثوا فرقة جديدة ، بل كانوا و لم يزالوا  متمسّكين بكل ما كان عليه جمهور الأمة من عقائد و  أعمال ، عاضّين عليها بالنواجذ،  نعم ، كلَّما  ثار حولهَا نقعُ‘ و غبارُ‘ ، حاولوا إزاحته بالحكمة و العقل ، الأمر الذي سوّغَ لبعض من معاندِيهم أن يُثيروا حولهم شبهات ، لا قِبلَ لهم بها ، و صوّروهم و لكأنما هم فرقة محدَثة ، و ما هم كذلك ، و ألصقوا بصورتهم المشرقة من التهم و اللاعتداءات ما هي عنه براء، و لقد ألَّف في هذا الموضوع حكيم الإسلام العلامة الشيخ القارئ محمد طیب –رحمه الله تعالى-([1])كتابا باسم :” علماء ديوبند عقيدة ً و منهجاً “،([2]) و هو أحسن ما یشرح رؤية علماء ديوبند و منهجهم العلمي المتزن و المتوارث ، كما زدتُها إيضاحا في مقدمته ، ولكن الذي يهمّني هنا هو أني و إن كنت أعتبر سادَتنا علماءَ ديوبند قدوةً لي في شؤون الدین ، إلا أني أتأبی عن القول بأني ” ديوبندي ” ، لأني أجد فيه رائحة من الانحیاز الطائفي ، و مهما يكن، فإني على كل حال “ديوبندي المولِد”، و إني أحتسب على الله تعالى  سعادة ً ،بفضل منه و كرم ، أنه أكرمني بالولادة في “قصبة” كهذه، حيث أنجبت  ” جامعةُ دارالعلوم /دیوبند” جِبالا شامخاتٍ  من العلم و المعرفة ، والعزم و الاستقامة ، والفضل ممن يندُر نظيرهم نُدرةَ الكبريت الأحمر في هذه الآونة الأخيرة۔

وكان أجدادنا في ” ديوبند” معروفين بلقب ” مياں جي” ، وكان هذا لقبا ، يحمل مدلولا خاصا ، و قد  شرحه والدي الكريم رحمه الله تعالى كالتالي:

” الذي يبدو لي أن أساتذة الكتاتيب المنتشرة في القرى و الأرياف يومَها كانوا يُدعَون بهذا اللقب:” مياں جي ” ، و كانت هذه الكتاتيب توفِّر بعد مرحلة تعليم القرآن الکریم ، تعلیمَ المواد التالية: الأردية ، الفارسية ، الحساب ، و كان هذا التعليم بمستوى أفضل مما هو سائد الیوم باسم المرحلة المتوسطة في الأساكيل العصرية ، و اللقب المذكور ، علاوة على دلالته علي الأساتذة المتزودين بالعلم الشرعي ، كان يعني أن صاحبه متسم بالسلوك الحسن ، تماما كما عُرف إطلاقُه على أمثال ” مياں جي نور محمد “وهو شيخ حضرةِ الحاج إمداد الله المهاجر المكي ( رحمة الله عليهما) ، حيث كان ذائع الصیت في الحِدادة، و ” مياں جي منى شاه ” رحمه الله تعالى) الذي كان معروفا بكشوفه و كراماته في ديوبند”

و قد قال سماحة والدي رحمه الله أيضا:

” لم يبلغني  سجلّ ثابت و موثوق به في خصوص سلسلة نسب أسرتي ، و لكن الشريعة لم تشترط لإثبات أمور كهذه اتصالَ السند ،و اعتبرت استفاضة الخبر على ألسنة الآباء كابرا عن كابر  كافيا لإثبات النسب ، و قد سمعت من كبار أسرتي بتواتر أن أسرتنا منحدرة من سلالة سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه “([3])

قد أبصرت نورَ الوجود لخمس (۵) خلون من شوال عام ۱۳۴۲ من الهجرة ،ا كما ظفرت بهذا التاريخ نفسه في ” مذكرة ” والدي الماجد رحمه الله تعالى ، و حيث کان من السائد یومَ ذاک تسجیل التواریخ وفق التقویم الهجري ، فإني لم أجد تاريخ مولدي بحساب التقويم الميلادي ، و لكن قد توصلنا  بعدُ في ضوء حسابات مختلفة أنه يوافق الثالث(۳) من أكتوبر عام ۱۹۴۳من المیلاد، و بمناسبة ولادتي فقد سمعت من والدتي و إخوتي أني كنت قد وُضعت يوم ولادتي على بساطٍ ، قد سقطت عليه حية من جهة السقف ، و لولا أن أهلي قد تمكنوا من إبعادها عن بساطي ثم قتلِها لما كان وجه هذه المعمورة قد شهد من سيئاتي ما شهد۔۔۔۔۔!

وعلي كل ، فإني لم أجد من عمري ما أقضيه في قصبة ” ديوبند ” إلا أربعة أعوام و سبعة أشهر (من شهر أكتوبر ۱۹۴۳ء إلى شهر مايو ۱۹۴۸ء)، و کانت هذه الفترة من عمري هي فترة الصبا التي لا يتفتّح فيها وعي أطفال مثلي على ما وراء عالَم ألعابهم الصغير الذي ينسجونه حول أنفسهم ، في غنىً تام عما یحدث خارج هذا العالم  ،الفترة التي عادةً مّا ينسى الناس أحداثها عندما يتقدم بهم السن ، و لكني أتذكر حتى يومي هذا من أحاديثها و أحداثها و لكأنها ماثلة  للعيان ۔

متواصل…………….


[1]۔الرئیس الأسبق للجامعة الإسلامية (دارالعلوم ديوبند۔الهند)

[2]۔   و يجمل بالمقام لو نقلنا غيضا من فيض هذه المقدمة الجامعة النافعة فيما يلي: فمما قاله شيخنا الكريم حفظه الله تعالى في مقدمة الكتاب المذكور :۔۔۔۔۔إن الدين و تعاليمه الأساسية إنما تنبع من الكتاب و السنة ، وإنها تعالیم الکتاب والسنة- في شكلها الكامل هي أساس مذهب علماء ديوبند۔

خذ أي كتاب موثوق به في عقائد أهل السنة و الجماعة ، و اقرأه ستجد أن مذهب علماء ديوبند هو كل ما جاء فيه  من العقائد ، و اقرأ أي كتاب موثوق به في الفقه و أصول الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة ، ستجد أن ما جاء فيه من المسائل الفقهية ، و الأصولية هو المذهب الفقهي لدى علماء ديوبند ، و راجع أي كتاب صحيح في الأخلاق و الإحسان ، ستجد أنه هو مرجع علماء ديوبند في الإحسان و تزكية الأخلاق ،إنهم إنما يتخذون أولئک الأشخاص الذين أجمعت الأمة على جلالة قدرهم و مكانتهم العلملية ، العملية بدءا بالأنبياء الكرام صلى الله عليهم وسلم ، و مرورا بالصحابة و التابعين ، و انتهاءا بأولياء الأمة و صلحائها نماذج جديرة بالاتباع و التلقليد

وجملة القول : إنه ليس هناك ناحية من نواحي الدين ينحرف فيها علماء ديوبند قيد شعرة عن التفسير المتوارث للإسلام ، و عن مزاجه و ذوقه الأصيل۔۔۔۔۔۔۔۔۔۔ فلو شاء أحد أن يطلع على مذهبهم فعليه بمراجعة الموثوق به لدي جمهور علماء الأمة من تفاسير القرأن ، و شروح الحديث ، و كتب الفقه الحنفي ، و العقائد و الکلام ، و الإحسان و الأخلاق ، التي تتحدث عنه عن مذهبهم في تفصيل ۔۔۔، “(راجع للتفصيل : علماء ديوبند عقيدة و منهجا ، ص: ۱۰ الخ، مكتبة إدارة المعارف كراتشي)، و أردفه سماحته بالحديث عن الأسباب و المبررات  الداعية لهذا المؤلف ،لحين لم تكن ثمة حاجة إلى إحداث ذلك ، ما دام علماء ديوبند حلقة متصلة و مترابطة مع حلقات جمهور علماء الأمة الأسلامية منذ أربعة عشر قرنا كما ذكره أعلاه، و الكتاب جدير بالمراجعة ، علما أنه تم طبعه فيما نعلم من دار القلم بدمشق أيضا۔

[3]۔و تفاصيل سلسلة نسبنا  مذكورة في كتاب والدي –قدس سرہ-باسم ” والدي الماجد “۔