ترجمة :عبدالوهّاب الدیروی
﴿ قسم التخصّص فی الإفتاء بالجامعة ﴾

ذِکرَیات
للعلامة الفقیه الشیخ محمد تقی العثمانی﴿مد الله فی حیاته﴾
﴿الحلقة الخامسة﴾

(سلسلة ترجمة و تعريب “ذكريات ” لشيخنا العلامة العثماني- حفظه الله تعالى – ، و قد تفضل سماحته بتسجيل ذكرياته العطرة التي تغطي حوالي نصف قرن و ما يزيد من  حياته المعمورة بالأعمال الإبداعية الموفقة في شتى میادین الحياة المعاصرة المتحركة ، قد كان الإلحاح على الشيخ دائما مستمرا ، ولکن أبى الشيخ المتواضع أن يرى نفسه تليق أن تذكر في سجلات الذكريات و التراجم ، إلا أن قيض الله تعالى العلامة أحمد الخانفوري الهندي ليقنِع شيخنا العلامة بذلك ، فقام بفتح هذه السلسلة الشيقة من ذكرياته نزولا عند رغبة العلامة الشيخ الخانفوري حفظه الله تعالى ،و لينفض به غبار اللبس عن وقائع من حياته،  قد اشتبهت ملابساتها على بعض الأفاضل المترجمين لحياته و المعنيين بذكر جهوده و أعماله،   و قد شرعنا في ترجمة حلقاتها المنشورة في صفحات “مجلة البلاغ الأردية” إلى اللغة العربية ، بإذن شفوي من صاحبها قبل ظهورها إلى حيز النشر ،جزاه الله تعالى عنا كل خير ، و نفعنا بعلومه و بركاته۔ المترجم)

أمي الماجدة رحمها الله تعالى :

كانت أمي الماجدة صاحبة الفضيلة /السیدۃ نفیسة –أمطر الله تعالى عليها مِن سحائب رحمته- أمّا مثالية ، و صاحبةَ بيت مثالية مِن النوع الأصیل ، كانت تنتمي إلى أسرة “أنصارية” معروفة في قرية ديوبند، و لها آیات و أحاديث في مساندةِ سيدي الوالد الكريم في الضراء و السراء، حتى أوفته حق الرِفة في درب الحياة ، و الحديث عنها ذو شجون ، و هو موضوع برأسه  ، و لقد سبَق أن  كتبت مقالةَ  رثاء ٍ إثرَ  رحيلها و  قد ضُمَت إلى سلسلة مقالاتي المطبوعة باسم ” نقوش رفتگاں ” (آثارُ الراحلين) ، فلقد کانت –الوالدة الكريمة- سیدة عابدة زاهدة،  لم تفُتها قراءةُ نصیبٍ مِن أورادِها اليومية  من القرآن الکریم و الذکر و النفل طوالَ حیاتِها ما دامت واعيةً  أو تُحسّ  رِكزا
و أما بالنسبة لنا فلقد كانت ملاك رحمة وعطف وحنان، و هبت لصالحِنا كلّ أوقاتِها ، حتى ظلّت تواصل الليل بالنهار ،  ساهرةً على قضاء حوائجنا، و توفير راحتنا، مؤثرةً إياها على حسابِ نفسِها دائما ، فلا تكاد تأخذ حتى قسطَا لنفسِها من الراحة ،و مهما يكن نصيبُ حبّها لِجميع أولادِها الذی اجتدت فی أن یکون عادلاً ، فإنّي – و لِكوني أصغرَهم سنّا- قد نالني من حبِّها و دَلالِها الحظ الأكبر،و كان من نتيجة هذا الدلال أني لم أزل أتعاطى الطعام مِن يدَيها ، فلا أكاد آكل ما لم تناوِلني بيدَيها لقمةً لقمةً، عدا ذلك، فإنها –الوالدۃ الکریمة- کلما ارتادت بیتا في الجوار، فلم يكن مِن المتصوَّر أن أتخلى عن مصاحبتِها ۔
و لم یکن في الحسبانِ فی أيامَنا تلك استحداثُ مراكب آلیة مِن نوعِ السيارات وغيرها في قرية ک”ديوبند”، و لاأن يكون  لأحدٍ لم يتجاوز حدود هذه القرية أيُّ عهدٍ  بمشاهدتها، كلّ ما كان ثمةَ مِن مَركبٍ بمتناولهم ،فهو ” عربة الحصان” التي يستخدمها الناس لقطع المسافات الداخلية، على أنها –هي الأخرى- إنما كانت تخصّ الرجال ، و يُعاب على النساء ركوبها ،و إن تسترت بالحجاب، إلا اللهم أن تحدث حاجةُ سفرٍ إلى جهة بعيدة ،  يشقّ السفر إليها بدون العربة، فيَتمّ حينَئذٍ إسدالُ ستائر على العربة ،بحيث يحيط بها من جهاتِها الأربعة، فتركبها النساء المتحجبات ، و يقعدن داخلَها ۔و أما وسيلة التنقل بين المحلات غير المتباعدة، فکانت هي ” الحجلة/الهودج” ، و كانت تسمى في لغة أهلِ ديوبند ب” ڈولي”۔
و كان يحمِل هذا الهودج رجلان على أكتافهما ، و كانو يدعون حامِله ” كُهار”، فكلما دعت الحاجةُ سيدةً من أهل الحي إلى الهودج ، وضعَه ” كُهار” في حدودِ بيتها، و خلى بينه و بين السيدة ، و ذهب خارجا،  فتقعد هي فيه، و ربما تضع إلى جانبِها حجرا ، بهدفِ أن لا يتنبّه الحامل (كُهار) لمدى ثِقل السيدة و وزنِها الحقيقي أثناءَ الحمل، و قد يحدو الصبيانَ شوقُهم إلى التمتع بمركب ” الهودج ” بمصاحبة أمهاتهم ، فيغنيهِنّ ثقلُهم عن وضع حجرٍ، و مِن ثمّ فإن والدتي  الكريمة كانت تستصحبني عند اختلافِها إلى بيتٍ أحدٍ مِن جهة خؤولتنا، و كانت ستائر الهودج تحول دون إطلالي على معالِم الطريق فلم أكن لأتنبه لها،  و لكن كنا نتمتع باهتزازات الهودج وارتجاجا ، و التي كنا نعبّر عن شعورِنا بالتمتع في لغتنا المحلية بِ”ديوبند”: ( ما أمتعَ “نوباتِ”  الهودج!)

أختى السيدة نعيمة رحمها الله تعالى :

و كنا تسعة : إخوانا و أخواتٍ مِن أولادِ سعادة الوالد الكريم رحمه الله تعالى، أكبرهم صاحبة الفضيلة / السیدة نعيمة (الراحلة في ذمة الله ) –رحمها الله تعالى- و كنا ندعوها “آپاجان”[صیغة حبٍ و تعظيم تستخدم لِلأخت الكبرى]، و قد سبق تزوجُها ميلادي، كما سبق لها وِلادُة بنتَين و ابنٍ قبل ميلادي كذلك ، و كانت سيدة مرِحةً طلِقة الوجه، يتعامل معها سائر أشقائي بكلّ بانفساح و انفتاح، و لكن استولى على مِن هيبتِها منذ فجرِ طفولتي ما جعلني أهابها أكثر من والدتي الكريمة حتى، و لعلّ سبب شعوري بالهيبة تجاهها يرجِع إلى قصةٍ لي معها ، مُفادُها : أن أختي هذه كانت تساكن زوجَها المغفور له: ” الحكيم السيد شريف حسين ” في بيت واقع على معلاة من محلة مقابِلة لِمحلّتِنا ، تُدعى ” ٹيله” [تعني: التلة]، و كانت تلة صغيرة ، و لكن تتراءى لنا و لكأنها جبل على أقله۔
و كان زوجها المذكور أعلاه رجلا أنيقا نظيفا ، و يبدو من سِيماه و لكأنه ضارِب   إلى ” رؤساء “مدينة أودھ” ؛ لِمنتهى اعتنائه بأناقة المظهر، و نظافة المنزل ، كان يُولي النظافة في البيت اهتماما أكثرَ من اللازم، الأمر الذي يجعله يتحرّج مِن أخفّ تثنٍّ و التواء يجده على مِلحفه سريرِه ، و کان من دأبي كلما أذهب إلى بيتها،أن أنشغل باللعب مع أبناء أختي الذين كانوا أندادا لي في السن، و قد حدث مرةً و أنا ألعب معهم كالعادة : أن وطأت بقدميّ المتّسختَين ملحفةَ أختي، فنظرت إلي نظرةً شزراءَ ، و قالت : ( بس،لا “تتفضل بقدومك” ۔۔۔!)، و كانت هي المرة الأولى التي مسَّ فيها سمعي لفظةُ ” قدم رنجه ” [كلمة تشريف للتعبير عن القدوم خيرَ مقدَم] ، و مهما يكن فان هذه اللفظة تنم عن معانٍ مِن التهكم و التعريض الخفي، إلا أن نظرتها الشزراء التي استلهمت مد لولَها من مقتضى المقام كان أشد عليّ وقعاً منها –اللفظة-،و كانت مبعثَ هيبة دائمة استولت على قلبي تجاهها ، حتى لم يكن بإمكاني أن أتفادى وقعِها إلا بعد أعوام ، حينَ استطعت  الانفتاح معها إلى حدّ لا بأس به، و لم أكن أعلم أن توجيهَ نظرة غاضبة إلى أحد بهذا الشكل يسمّى ” گهورنا” [ و يعني توجيه نظرة شزراء إلى أحد] ، و إنما اطلعت على مدلوها حينَ حكت أختى هذه القصة لسائر إخواني ، فكان أول عهد لأذني بهذه الكلمة ،و كانت هي كبرى أخواتي ،  وافتها المنية و لها من العمر أربع و ثلاثون، و كنت يومَئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة، أسكنها الله تعالى فراديس جنانه ، و أفاض عليها من نعیمها و رَوحها و ريحانها، فلقد كانت مثالا فذا  من الإباء و المثابرة على قلة ذات يدها و حتى في أشد أيامِها من الناحية الاقتصادية ، و هنا قصة أخرى من حياتها تفرض نفسَها على بساطِ الكتابة ۔
و كما أشرت إليه آنفا ، فقد كانت [أختي المذكورة] تعاني الكثير بعد زواجها من الناحية الاقتصادية ، و بينما كانت تعيش هذه المشاكل ، التمست ذات مرة من حضرة والدي الكريم أن يدعو لها ليُسعِدها الله تعالى بالتوفيق  لأداء منسك الحج ، فبادرها الوالد الكريم بالسؤال : ” و هل أنت راغبة في الحج؟” ، أجابت بنعم ، فقال حضرة الوالد : ” كلا ، لستِ راغبة في أداءه !” ، فقالت مستغربةً : ” أنا جادّة في رغبتي للحج ۔۔” ، فأفاد حضرة الوالد:  ” فهل ادّخرت لذلك من مصروفك شيئا ؟” ، قالت : ” لا ” ، فقال : ” هذا يعني أن رغبتك إلى حد القول باللسان و حسب ، و لو كنت راغبة حقا لادخرت لها شیئا۔۔” ، فاعتذرت قائلةً : ” و ماذا عساني أن أدخر من مصروفي الضئیل الذي لا يتبقى منه شئ۔!” ، فقال حضرة الوالد : ” و هل لا يسعك أن تدخری حتى فلسا واحدا من روبية؟” ، قالت : ” طبعا ، يسعني ذلك ، و لكن هل  يغني هذا القدر اليسير من مصاريف الحج شيئا؟” ، فأفادها حضرة الوالد الكريم قائلا : ” إن العبد عندما يخطو خطوته الأولى حسب استطاعته لتأدية معروف، فإن الله تعالى يعينه عليه أول الأمر،  فإن لم يكتب له إتمام ذلك المعروف فإنه يُمنح أجرَه و ثوابه لزاما مِن عندالله تعالى، أما من كان يمنّي نفسه بالأماني الفارغة ، و لا يخطو نحوها أي خطوة ، فإن هذا لا يحقق شيئا ،و لا يجدي نفعا۔۔۔”
قد حدث هذا الحادث ، و مضت السنون تلو السنون ، حتى توفاها الله تعالى في عام ۱۹۵۶المیلادي،  فاستعرض الورَثة  ما تركته بعدها من أمتعة ، فعثروا على كِيس من ثوب، مكتوب أعلاه : ” فلوس للحج ” ، فتحوه ، فإذا فيه حوالي خمسا و ستين روبية (۶۵ )، و لما رأه حضرة الوالد الكريم ، دمعت له عيناه ، فقص علينا هذه القصة حينها، ثم صرف حضرته هذه الفلوس في تأدية الحج بدلا عنها ، وهكذا حقق رغبة أداءِها للحج بالبدل عنها ۔
ثم حدث بعد فترة من الزمان أن الوالد الكريم كان في ميدان ” عرفات ” ، و غلبه طيف من النعاس لبُرهة ، فإذا هو يشاهِد في عالَم الرؤيا ” آپا جان” ( أختنا المعظمة ) و هي تصعد على جبل الرحمة في عرفات ! و هكذا  فقد هيأ الله تعالى لأَمَته هذه أسباب تأدية حجها ، رحمها الله تعالى رحمة واسعة ۔
و یأتي بعدها دور  السيدة عتيقة حفظها الله تعالى ، فهي تليها في السنّ، وهي ماشاءالله سيدة عابدة و ذات حياة منظمة ، و قد تشرفت بالمبايعة على يد حكيم الأمة العلامة الشيخ محمد أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى، و لا يوجد على بسيطة الأرض غيرها في يومنا هذا (أعني ۲۳من فبرایر ۲۰۱۷م الموافق ۲۵من جمادی الأولی ۱۴۳۷من الهجرة) إلى حد معرفتي بمن يكون حائزا على شرف المبایعة المباشرة على يد حكيم الأمة التهانوي رحمه الله تعالى ۔۔۔!
و كان من دأب حضرة والدنا رحمه الله تعالى أنه كان يقضي شهر رمضان المبارك في زاوية “تهانه بهون “في ظل رعاية حكيم الأمة التهانوي رحمه الله تعالى، و يستصحب معه أهله و أولاده إلى هناك أيضا، و من أجل هذا الغرض فإنه كان  يمكث في أكثر الأحيان في غرفة من الدور الثاني في بيت حكيم الأمة التهانوي -رحمه الله تعالى ۔، وکان موقع هذه الغرفة بحيث إنها تنفتح على فناء أمام غرفة حضرة التهانوي في الدور الأرضي، و حيث إن المستراح(الكنيف) كان واحدا، وكان واقعا في نهاية الفناء من حيث اتخذت السلالم الصاعدة إلى الدور الثاني، فدبّر حضرة التهانوي لجعلِ المستراح صالحا لكلتا الأسرتين ،حيث حدد موضعا في الفناء يعلق عليه قنديل من الزجاج ، فما دام هذا المصباح موضوعا هنا يكون هذا علامة على أن المستراح فارغ ، و أن نظام الحجاب قائم، و إن لم يوجد هذا المصباح مكانه فهذا يعني أن المستراح مشغول۔۔۔!
و تقص علينا أختنا هذه أن حضرة الوالد الكريم رحمه الله تعالى كان يسكن في أدب جمّ أثناء مكثنا في هذا البيت، و كان يتعهدنا و يوصينا أن لا نحدث أدنى ضوضاء نتسبب بها فی إحراج حضرة التهانوي رحمه الله تعالى ، و قالت :وکنت طفلة صغيرة السن يومَئذٍ، فلم أكن لأحتجب، فأرشدني الوالد الكريم ذات مرة أن أذهب إلى حضرة التهانوي رحمه الله تعالى لألتمس منه المبايعة على يده، و لم أحمل هذا الأمر بادئ ذي بدء  على محمل الجد ، ظنا مني بأن بنتا صغيرة مثلي كيف يمكن أن تبايع ؟، و لما كرر الوالد الكريم أمره ، فبادرته بالسؤال : ” و هل يبايع الأطفال ؟” ، فأفاد : ” نعم ، بإمكانهم ذلك ” ، فعرضت نيتي للمبايعة على زوجة حضرة التهانوي ، و السيدة الزوجة رفعت أمري إلى حضرته، فطلبني ، و قال :” و هل تبايعينني لتحسبي أمر المبايعة لعبة كلعبة الأطفال ؟” ، فأجبت نفيا،  فناولني طرف ثوب، و أمسك بطرفه الآخر، و قبلني للبيعة، و هكذا نلت هذا الشرف في مقتبل صباي([1])
و قد تزوجت أختي هذة قبل ولادتي ، بل قد سبق و أن ولدت لها بنت قبل ميلادي كذلك ، كما ولدت لها أخرى متزامنا مع ولادتي ، و كانت تساكن زوجها و أولادها في بيت منفصل غربيّ بيتنا، و إني و إن كنت أُدعى خالا  لأولاد السيدة نعيمة المغفور لها، و كذلك لبنت السيدة عتيقة –مدظلها-، و لكن أولاد ُاختیّ هؤلاء كانو أكبر مني سنا، و كانوا يتقدمونني في الدرس في “كُتّاب السيدة العمة أمة الحنان” ( و سيأتي الحديث عنها لاحقا)، و لكن قلة التفاوت في السن بيننا جعلهم و إياي نتعامل كأصدقاء أكثر من كونهم أقرباء لي من جهة الخؤولة ، و لم تكن صداقتي تعدوهم إلى أحد آخر، و ابن اختی الوحيد هذا من بينهم هو من عُرف فيما بعدُ باسم الشيخ الحكيم مشرف حسين (رحمة الله عليه)، و كانت معظم أدوار صداقتي تدور معه ، كان نشيطا في كل لعبة ، بينما كنت  كالتابع المهمل له ۔۔ !
و على كل ، فإن هذا  التفاوت العظيم بيني و بين هاتين الأختين في السن أضفى على علاقتي بهما مسحة من هيبة كهيبة المربية   ،بدلا من بسوطة كبسوطة الصداقة !

متواصل…………….


[1] ينبغي أن يوضع في الاعتبار هنا  أن الغرض الحقيقي من لمبايعة و إن كا ن يتأتى بعد البلوغ، و لكن  يمكن نيل بركة الانخراط في سلك سلسلةمن سلاسل التزكية و الإحسان  في  سن الطفولة كذلك ،