رؤية الهلال
قبول الشهادة برؤية الهلال وموانعها
بحث أعدّ للعرض على مؤتمر مقترح من قبل رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة
﴿القسط الرابع﴾

نفي الهلال بالحساب
أما رد شهادة الرؤية عند عدم إمكان الرؤية حسابيا، فقد ذهب إليه جماعة من الفقهاء ، وأول من قال ذلك فيمانعلم الحافظ تقى الدين السبكى رحمه الله تعالى من فقهاء الشافعية. ولكن رد عليه جمع كبير من الفقهاء. قال الشيخ محمد عليش رحمه الله تعالى:
“ما قولكم  في شهادة عدلين برؤية الهلال مع قول أهل الحساب إنه لا يمكن رؤيته قطعا فهل يعمل بها، ويطرح كلام أهل الحساب أو لا أفيدوا الجواب ؟
فأجبت بما نصه : الحمد لله، والصلاة، والسلام على سيدنا محمد رسول الله يعمل بشهادة العدلين، ويطرح كلام أهل الحساب كما قاله العلامة الحطاب، ونصه : لو شهد عدلان برؤية الهلال، وقال أهل الحساب إنه لا تمكن رؤيته قطعا فالذي يظهر من كلام أصحابنا أنه لا يلتفت لقول أهل الحساب، وقال السبكي وغيره من الشافعية إنه لا تقبل الشهادة؛ لأن الحساب أمر قطعي، والشهادة ظنية، والظن لا يعارض القطع، ونازع في ذلك بعض الشافعية، والله أعلم ا هـ، وقد سئل الرملي الشافعي الكبير عن قول ابن السبكي المذكور . فأجاب بأنه مردود رده عليه جماعة من المتأخرين، ويؤيد المنازع فرق القرافي المتقدم.”[1]
وبالغ بعض الفقهاء في الرد على السبكى رحمه الله تعالى، حتى قالوا إذا رؤي الهلال في صباح التاسع والعشرين، وجاءت الشهادة برؤيته في مساء ذلك اليوم قبلت الشهادة مع أنه غير ممكن من ناحية الحساب. قال الرملى الكبير من الشافعية:
“( سئل ) عن قول السبكي لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمل بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية، وأطال الكلام في ذلك فهل يعمل بما قاله أم لا، وفيما إذا رؤي الهلال نهارا قبل طلوع الشمس يوم التاسع والعشرين من الشهر وشهدت بينة برؤية هلال رمضان ليلة الثلاثين من شعبان هل تقبل الشهادة أم لا؟ لأن الهلال إذا كان الشهر كاملا يغيب ليلتين أو ناقصا يغيب ليلة، وغاب الهلال الليلة الثالثة قبل دخول وقت العشاء لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة هل يعمل بالشهادة أم لا ؟ ( فأجاب ) بأن المعمول به في المسائل الثلاث ما شهدت به البينة لأن الشهادة نزّلها الشارع منزلة اليقين. وما قاله السبكي مردود رده عليه جماعة من المتأخرين، وليس في العمل بالبينة مخالفة لصلاته صلى الله عليه وسلم ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا. وقال ابن دقيق العيد الحساب لا يجوز الاعتماد عليه في الصيام ا هـ والاحتمالات التي ذكرها السبكي بقوله ولأن الشاهد قد يشتبه عليه إلخ لا أثر لها شرعا لإمكان وجودها في غيرها من الشهادات .” [2]
ونقل ابن عابدين فتوى الرملى الكبير رحمهما الله تعالى في رسائله وأقره. [3]
ولكن هناك جمع من المتأخرين أيّدوا قول السبكى رحمه الله تعالى، فقال القليوبى من الشافعية:
“قال العلامة العبادى: إنه إذا دلّ الحساب القطعى على عدم رؤيته لم يُقبل قول العدول لرؤيته وترد شهادتهم بها، انتهى. وهوظاهر جلى ولايجوز الصوم حينئذ، ومخالفة ذلك معاندة أو مكابرة.” [4]
وقال ابن حجر الهيثمى المكى رحمه الله تعالى:
“ووقع تردّد لهؤلاء وغيرهم فيما لو دلّ الحساب على كذب الشاهد بالرؤية؛ والذى يتجه منه أن الحساب إن اتفق أهله على أن مقدماته قطعية، وكان المخبرون منهم بذلك عددالتواتر رُدّت الشهادة وإلا فلا.وهذاأولى من إطلاق السبكى إلغاء الشهادة إذا دلّ الحساب القطعى على استحالة الرؤية.” [5]
والواقع أن السبكىّ رحمه الله تعالى لم يقل بردّالشهادة إلا بعد أن يثبت كون الحساب قطعيا، وعلى هذا، فلا منافاة بين قوله وقول ابن حجرالمكى رحمه الله تعالى.
والظاهر أن الذين ردّوا على السبكى رحمه الله تعالى إنمااستندواإلى إطلاق قول المتقدمين أنه لاعبرة بقول المحاسبين في الهلال، فحملوا قولهم على كلّ من إثبات الهلال ونفيه، مع أنهم لايوجد منهم نص على عدم اعتباره في النفي، فإن السبكى رحمه الله تعالى ذكر في فتاواه أن قول المتقدمين إنما يتعلق بإثبات الهلال، ولم يرد منهم نص على عدم اعتباره في النفي. والحق أن كلام السبكى رحمه الله تعالى في غاية الوجاهة، فنورده هنا بنصه:
” قال الله سبحانه: “يَسْئَلُوْنَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيْتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ…فكان من المهم صرف بعض العناية إلى ذلك ومعرفة دخول الشهر شرعا .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا عقد الإبهام في الثالثة والشهر هكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين.” رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ؛ وقد تأملت هذا الحديث فوجدت معناه إلغاء ما يقوله أهل الهيئة والحساب من أن الشهر عندهم عبارة عن مفارقة الهلال شعاع الشمس، فهو أول الشهر عندهم ويبقى الشهر إلى أن يجتمع معها ويفارقها فالشهر عندهم ما بين ذلك ، وهذا باطل في الشرع قطعا لا اعتبار به فأشار النبي صلى الله عليه وسلم بأنا أي العرب أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، أي ليس من شأن العرب الكتابة ولا الحساب .
فالشرع في الشهر ما بين الهلالين، ويدرك ذلك إما برؤية الهلال وإما بكمال العدة ثلاثين، واعتباره إكمال العدة ثلاثين دليل على أنه لا ينتظرون به الهلال، وأن وجوده في نفس الأمر معتبر بشرط إمكان الرؤية، ولو لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لكان إذا فارق الشعاع مثلا قبل الفجر يجب صوم ذلك اليوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يجعل الصوم إلا في اليوم القابل ، وهذا محل مجمع عليه لا خلاف فيه بين العلماء.
وثَمَّ محل آخر اختلفوا فيه، يمكن أن يؤخذ من الحديث ويمكن أن يعتذر عنه، وهو ما إذا دل الحساب على أنه فارق الشعاع ومضت عليه مدة يمكن أن يرى فيها عند الغروب فقد اختلف العلماء في جواز الصوم بذلك، وفي وجوبه على الحاسب وعلى غيره، أعني في الجواز على غيره. فمن قال بعدم الوجوب عليه وبعدم الجواز فقد يتمسك بالحديث، ويعتضد بقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُمّ عليكم فاقدروا له.” وفي رواية: “فأكملوا عدة شعبان ثلاثين.” وهذا هو الأصح عند العلماء، ومن قال بالجواز اعتقد بأن المقصود وجود الهلال وإمكان رؤيته كما في أوقات الصلاة إذا دل الحساب عليها في يوم الغيم، وهذا القول قاله كبار. ولكن الصحيح الأول لمفهوم الحديث، وليس ذلك ردّا للحساب، فإن الحساب إنما يقتضي الإمكان، ومجرد الإمكان لا يجب أن يرتب عليه الحكم، وترتيب الحكم للشارع وقد رتبه على الرؤية ولم تخرج عنه إلا إذا كملت العدة ، الفرق بينه وبين أوقات الصلاة أن الغلط قد يحصل هنا كثيرا بخلاف أوقات الصلاة يحصل القطع أو قريب منه غالبا ، وهذا الخلاف فيما إذا دلّ الحساب على إمكان الرؤية ولم يُر؛ فأحد الوجهين أن السبب إمكان الرؤية ، والثاني: وهو الأصح أن السبب نفس الرؤية أو إكمال العدة، وعلى كلا الوجهين ليس ما دل عليه الحساب محكوما عليه بالبطلان، وقد يكون في نفسه بحيث تنتهي مقدماته إلى القطع وقد لا تنتهي إلى ذلك بحسب مراتب بعده عن الشمس وقُربه.
وههنا صورة أخرى وهو أن يدُلّ الحساب على عدم إمكان رؤيته، ويُدرَك ذلك بمقدمات قطعية، ويكون في غاية القرب من الشمس ففي هذه الحالة لا يمكن فرض رؤيتنا له حسّا، لأنه يستحيل، فلو أخبرنا به مخبر واحد أو أكثر ممن يحتمل خبره الكذب أو الغلط، فالذي يتجه قبول [6]  هذا الخبر وحمله على الكذب أو الغلط، ولو شهد به شاهدان لم تقبل شهادتهما، لأن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان، والظن لا يعارض القطع، فضلا عن أن يقدّم عليه.
والبينة شرطها أن يكون ما شهدت به ممكنا حسّا وعقلا وشرعا، فإذا فرض دلالة الحساب قطعا على عدم الإمكان، استحال القبول شرعا لاستحالة المشهود به والشرع لا يأتي بالمستحيلات، ولم يأت لنا نصّ من الشرع أن كل شاهدين تقبل شهادتهما، سواء كان المشهود به صحيحا أو باطلا، ولا يترتب وجوب الصوم وأحكام الشهر على مجرد الخبر أو الشهادة حتى إنا نقول : العمدة قول الشارع “صوموا” إذا أخبركم مخبر، فإنه لو ورد ذلك قبلناه على الرأس والعين، لكن ذلك لم يأت قط في الشرع، بل وجب علينا التبيّن في قبول الخبر حتى نعلم حقيقته أولا. ولا شك أن بعض من يشهد بالهلال قد لا يراه ويشتبه عليه، أو يرى ما يظنه هلالا وليس بهلال، أو تُريه عينه ما لم يَرَ، أو يؤدي الشهادة بعد أيام ويحصل الغلط في الليلة التي رأى فيها، أو يكون جهله عظيما يحمله على أن يعتقد في حمله الناس على الصيام أجرا، أو يكون ممن يقصد إثبات عدالته فيتخذ ذلك وسيلة إلى أن يُزكّى ويصير مقبولا عند الحكام، وكلّ هذه الأنواع قد رأيناها وسمعناها، فيجب على الحاكم إذا جرّب مثل ذلك وعرف من نفسه أو بخبر من يثق به أن دلالة الحساب على عدم إمكان الرؤية، أن لا يقبل هذه الشهادة، ولا يُثبت بها ولا يحكم بها، ويستصحب الأصل في بقاء الشهر، فإنه دليل شرعيّ محقّق حتى يتحقق خلافه.
ولا نقول: الشرع ألغى قول الحساب مطلقا، والفقهاء قالوا : لا يُعتمد، فإن ذلك إنما قالوه في عكس هذا ، وهذه المسألة المتقدمة التي حكينا فيها الخلاف. أما هذه المسألة، فلا، ولم أجد في هذه نقلا. ولا وجه فيها للاحتمال غير ما ذكرته.
ورأيت إمام الحرمين في النهاية لمّا تكلم فيما إذا رُئي الهلال في موضع، ولم يُر في غيره، وللأصحاب فيه وجهان، هل تعتبر مسافة القصر أوالمطالع؟ جزم بمسافة القصر، وذكر المطالع على وجه الاحتمال له لأنه لم ينقله، ثم ردّه بأنه مبني على الأرصاد والتمودارات، وفرض ذلك في دون مسافة القصر بانخفاض وارتفاع؛ وهذا الفرض الذي قد فرضه نادر، فإن أمكن ذلك وحكم حاسب بعدم الإمكان في هذا الموضع، احتمل أن يقال بعدم تعلق الحكم، واحتمل أن يقال إنما دون مسافة القصر كالبلد الواحد فيتعلق به الحكم .
ومسألتنا هذه في قطر عظيم وأقاليم دل الحساب على عدم إمكان الرؤية فيها، فشهد اثنان أو ثلاثة على رؤيته مع احتمال قولهما بجميع ما قدمناه، فلا أرى قبول هذه البينة أصلا ولا يجوز الحكم بها.
واعلم أنه ليس مرادنا بالقطع ههنا الذي يحصل بالبرهان الذي مقدماته كلها عقلية، فإن الحال هنا ليس كذلك، وإنما هو مبني على أرصاد وتجارب طويلة وتسيير منازل الشمس والقمر ومعرفة حصول الضوء الذي فيه بحيث يتمكن الناس من رؤيته، والناس يختلفون في حِدّة البصر، فتارةً يحصل القطع إما بإمكان الرؤية، وإما بعدمه، وتارةً لا يُقطع بل يُتردّد. والقطع بأحد الطرفين مستنده العادة، كما نقطع في بعض الأجرام البعيدة عنا بأنا لا نراها ولا يمكننا رؤيتها في العادة، وإن كان في الإمكان العقلي ذلك، ولكن يكون ذلك خارقا للعادة، وقد يقع معجزة لنبي أو كرامة لولي أما غيرهما فلا. فلو أخبرنا مخبر أنه رأى شخصا بعيدا عنه في مسافة يوم مثلا وسمعه يقر بحق وشهد عليه به لم يقبل خبره ولا شهادته بذلك ولا نرتب عليها حكما وإن كان ذلك ممكنا في العقل لكنه مستحيل في العادة فكذلك إذا شهد عندنا اثنان أو أكثر ممن يجوز كذبهما أو غلطهما برؤية الهلال وقد دل حساب تسيير منازل القمر على عدم إمكان رؤيته في ذلك الذي قالا : إنهما رأياه فيه، تُردّ شهادتهما لأن الإمكان شرط في المشهود به، وتجويز الكذب والغلط على الشاهدين المذكورين أولى من تجويز انخرام العادة، فالمستحيل العادي والمستحيل العقلي لا يقبل الإقرار به ولا الشهادة، فكذلك المستحيل العادي، وحقّ على القاضي التيقظ لذلك وأن لايتسرع إلى قبول الشاهدين حتى يفحص عن حال ما شهدا به من الإمكان وعدمه ومراتب الإمكان فيه، وهل بصرهما يقتضي ذلك أو لا؟ وهل هما ممن يشتبه عليهما أو لا؟ فإذا تبين له الإمكان، وأنهما ممن يجيد بصرهما رؤيته ولا يشتبه عليهما لفطنتهما ويقظتهما، ولا غرض لهما وهما عدلان ذلك بسبب أو لا فيتوقف أو يرد ؛ ولو كان كل ما يشهد به شاهدان يُثبته القاضي، لكان كل أحد يُدرك حقيقة القضاء، لكن لا بد من نظر لأجله جُعل القاضي، فإذا قال القاضي : “ثبت عندي” علمنا أنه استوفي هذه الأحوال كلها وتكاملت شروطها عنده فلذلك ينبغي للقاضي التثبت وعدم التسرع مظنة الغلط ، ولهذا إن الشاهد المتسرع إلى أداء الشهادة ترد شهادته، ومن عُرف منه التسرع في ذلك لم تُقبل شهادته فيه؛… ولا يعتقد أن الشرع أبطل العمل بما يقوله الحساب مطلقا فلم يأت ذلك ، وكيف والحساب معمول به في الفرائض وغيرها ، وقد ذكر في الحديث الكتابة والحساب ، وليست الكتابة منهيا عنها فكذلك الحساب وإنما المراد ضبط الحكم الشرعي في الشهر بطريقين ظاهرين مكشوفين رؤية الهلال أو تمام ثلاثين وأن الشهر تارة تسع وعشرون وتارة ثلاثون وليست مدة زمانية مضبوطة بحساب كما يقوله أهل الهيئة ؛ ولا يعتقد الفقيه أن هذه المسألة هي التي قال الفقهاء في كتاب الصيام : إن الصحيح عدم العمل بالحساب لأن ذلك فيما إذا دل الحساب على إنكار الرؤية وهذا عكسه.
ولا شك أن من قال هناك بجواز الصوم أو وجوبه يقول هنا بالمنع بطريق الأولى ومن قال هناك بالمنع فههنا لم يقل شيئا والذي اقتضاه نظرنا المنع فالمنع هنا مقطوع به.
ولم نجد هذه المسألة منقولة لكنا تفقهنا فيها وهي عندنا من محال القطع مترقية عن مرتبة الظنون والله أعلم. [7]
نبّه العلامة السبكى رحمه الله تعالى في هذه العبارة إلى نقطتين هامتين:
الأولى: أن ردّ الشهادة عند عدم إمكان الرؤية لا يؤدى إلى اعتبار الحساب في موضوع ثبوت الشهر الذى ردّه معظم العلماء. وحينما قال المتقدمون إنه لاعبرة بالحساب في ثبوت الهلال، فإنه لايلزم من قولهم هذا أنه لاعبرة به في شيء من الأمور المتعلقة بالهلال. ولم يرد منهم نص على عدم اعتباره في نفي الهلال، وكانت هذه المسئلة مسكوتا عنها إلى أن تحدث عنها السبكى رحمه الله تعالى، فلا ينبغى أن يُلزَم السبكىّ بمخالفة الجمهور في هذاالباب.
النقطة الثانية: أن ماذكره السبكىّ لايتجاوز من أن يكون طريقا للتثبت في قبول الشهادة برؤية الهلال. لاشكّ أن الشرع أمرنا بإثبات الشهر بالشهادة، ولكن الشرع نفسه أمرنا بالتثبت في قبول الأخبار والشهادات. قال الله سبحانه وتعالى: “وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ”(سورة النساء: 83) وقال تعالى: “يَآأَيُّهَاالَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوْآ أَنْ تُصِيْبُوْا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوْا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِيْنَ.” (سورة الحجرات:6)
وقدذكرنا فيما سبق أن الشهادة لاتُقبل إن كذّبها الحسّ، وهذا قريب من ذلك. واعترض عليه ابن القاسم في تعليقه على قول ابن حجر الذى نقلناه فيما سبق:
” يرد عليه أن إخبار عدد التواتر إنما يفيد القطع إذا كان الإخبار عن محسوس فيتوقف على حسية تلك المقدمات. ”
لكن قال الشيروانى رحمه الله تعالى تحته:
“وقد يجاب بأن مراد الشارح (يعنى ابن حجر) أن إخبار عدد التواتر عن قطعية تلك المقدمات يفيد ظنا قويا قريبا من القطع، وهذاالظن كاف في رد الشاهد بخلافه.” [8]
وهذاالاعتراض من ابن القاسم نقله ابن عابدين أيضا وأقره في رسائله، وأضاف إليه قوله:
“يعنى أن كون تلك المقدمات حسية غير مسلم، بل هى عقلية، أى غير مدركة بإحدى الحواسّ، والعقلىّ لايثبت بالتواتر لأنه مما يخطئ فيه الجمع الكثير، كخطأ الفلاسفة في قدم العالم، وإلا لزم ثبوت قدمه لاتفاق معظمهم عليه وإن كانوا كفارا، إذ ليس من شرط التواتر إسلام المخبرين، كما في شرح التحرير لابن أمير حاج.” [9]
والحق أن ماذكره ابن عابدين رحمه الله تعالى من كون مقدمات الحساب عقلية يمكن أن يكون صحيحا في علم الفلك البطليموسي القديم. ولكن الحقائق المسلّمة في علم الفلك الجديد ليست مبنية على الاستنتاج من مقدمات عقلية، وإنما هى مبنية على استقراء طويل حصل بمشاهدة سير الكواكب، وخاصةً بالآلات الرصدية والمنظارات القوية التى لم تُعهد ولم تُتَصوّر من قبل. ولا يصح فيها القول بأنها مبنية على المقدمات العقلية دون المشاهدات الحسّيّة. وهذا كما أن مواقيت الصلوات اليوم حصل على مثل هذه الحسابات المبنيّة على استقراء لايُقال فيها إنها مبنيّة على المقدمات العقلية. ثم إن الاستقراء في الأمور الأخرى ربما يتأتى فيه احتمال أن لايطّرد في بعض الجزئيات التى لم يصل إليه الاستقراء. أما هذاالاستقراء، فإنه مؤيد بنصوص القرآن الكريم حيث قال الله تعالى: “يَسْئَلُوْنَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيْتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ” (سورة البقرة: 189 ) وقال سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ” (سورة يونس: 5) وقال سبحانه وتعالى: “وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُوْنِ الْقَدِيْمِ. لَاالشَّمْسُ يَنْبَغِىْ لَهآ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَّسْبَحُوْنَ.” (يس:39 و40) وقوله تعالى:” الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ.”(سورة الرحمن:5) مما يدلّ على أن سير هذه الكواكب مرتبط بحساب منضبط أحكمه الله سبحانه وتعالى في هذاالكون. فلو عُلم ذلك الحساب بالاستقراء فإنه لايتخلف في حال من الأحوال.
فتبين مما ذكرنا أن الذين ردّوا قول السبكي رحمه الله تعالى  إنما فعلوا ذلك على أساس أن الحساب الفلكي مبنيّ على المقدمات العقلية البحتة، والحقيقة أنه مبنىّ على الاستقراء والمشاهدات و التجارب الحسّية التى أصبحت كالبديهيّات. فاستخدام هذاالحساب لأجل التثبت في الشهادة لا يمنع منه نصّ ولا ينطبق عليه ما قاله الفقهاء المتقدمون من عدم اعتبار الحساب في إثبات الهلال.
ثم إن جمعا من الفقهاء ردّوا خبر عدل بعد قبوله من أجل أنه وقع فيه الشكّ بعد شهر. وذلك فيما إذا ثبت رمضان بقول رجلين مثلا، فصام الناس على أساس ذلك ثلاثين يوما، ولكن لم يُرَ الهلال في مساء اليوم الثلاثين على كون السماء مصحية، فذهب المالكية إلى أنه لايجوز الفطر في اليوم القادم، لأنه ظهر أن خبر رجلين برؤية هلال رمضان كان كاذبا، لأنه لوكان صادقا لرآه الناس في مساء الثلاثين. وحينئذ لو شهد الرجلان اللذان شهدا برؤية هلال رمضان بأنهما رأيا هلال الفطر، لاتقبل شهادتهما، على كونهما عدلين، لتهمة أنهما يشهدان ليصدّقهماالناس في رؤية هلال رمضان. قال الدردير رحمه الله تعالى:
“( فإن ) ثبت برؤيتهما و ( لم يُرَ ) لغيرهما ( بعد ثلاثين ) يوما من رؤيتهما حال كون السماء ( صحوا ) لا غيم فيها ( كُذِّبا ) في شهادتهما ، وأما شهادتهما بعد الثلاثين صحوا فكالعدم لاتهامهما على ترويج شهادتهما.” [10]
وفرّق الحنفية والشافعية والحنابلة بين ما ثبت رمضان برجلين وبين ما ثبت بخبررجل واحد. فإن ثبت برجلين أفطروا بعد الثلاثين مطلقا، وإن ثبت برجل واحد ففيه روايتان إحداهما عدم الإفطار. [11]
والحاصل أن الذين ردّوا شهادة هلال رمضان أو خبره بعد قبوله بثلاثين يوما، لم يفعلوا ذلك إلا لأن الحسّ كذّبه. وظاهر أن ردّ الشهادة بعد شهر كامل فيه حرج شديد، ولو طُبِّق ذلك في ذى الحجة لفات الحجّ على جميع الناس. والأسهل من ذلك أن تُردّ الشهادة منذ البداية إن جاء ت في وقت لايمكن فيه الرؤية.
ربما يعترض على هذا أننا إن اعتمدنا الحساب في عدم إمكان رؤية الهلال لكونه قطعيّا كما قال السبكى رحمه الله تعالى، فلماذا لانعتمد الحساب في إثبات الهلال؟ والجواب عنه على قول الجمهور أن الحساب يحكم بيقين أن رؤيته غير ممكنة في الوقت الفلانىّ. أما كونه قابلا للرؤية في وقت مخصوص، فلا يفيد الحساب القطع بذلك. وذلك لأن كونه قابلا للرؤية أمر إضافي يختلف من حال إلى حال ومن مكان إلى مكان.
وتوضيحه: أن الذى لايختلف فيه اثنان أن القمر إذا كان في المحاق، لايمكن رؤيته لأهل الأرض إطلاقا. وولادة الهلال كما يسمّيهاالفلكيون حالة من حالات المحاق، بحيث لايمكن كونه مرئيا لأهل الأرض في حال ولادته، وإنما هو مستور عندذلك بالشمس. ثم إذاانفصل عن مقابلة الشمس فإنه يظلّ محجوبا بأشعة الشمس إلى فترة لا يمكن تحديدها بالضبط. ولذلك اختلف الفلكيون في تحديدها اختلافا شديدا، والآراء في ذلك تتراوح مابين خمس عشرة ساعة إلى ثلاثين ساعة، وذلك لاختلاف التجارب والمشاهدات في أزمنة وأمكنة مختلفة، ولأن كونه قابلا للرؤية يتوقف على كثير من العوامل، مثل بعده عن أشعة الشمس، ودرجة ارتفاعه عن الأرض، ومدة غروبه بعد غروب الشمس، ومقدار الغبار في الفضاء، وحِدّة الأبصار، وماإلى ذلك من العوامل الأخرى التى ذكرها البيروني في القانون المسعودي بتفصيل، [12]  فلا يمكن التنبؤ بكونه مرئيا على الأفق في وقت معين. ومن أجل هذه العوامل قد تختلف تنبؤات المراصد المختلفة في كون الهلال مرئيا في يوم واحد وبلد واحد، بخلاف ولادة الهلال، فإنه لاتختلف المراصد في تعيين وقته للعالم كله، ولا تختلف في عدم إمكان رؤيته عند ولادة الهلال أو قبلها أوبعدها بقليل.
وقد ذكرنا أن هناك اختلافا شديدا بين الفلكيين في تحديد الفترة التى يمكن فيها الرؤية بعد ولادة الهلال. وذلك لأن أقرب ما رؤى الهلال حسب تقرير مرصد غرين وج   (greenwich)  هو بعد ابتعاد القمر من الشمس بتسع درجات وثلاث دقائق حين ذهبت الشمس تحت الأفق إلى خمس درجات ومرّت على ولادة الهلال 15.4ساعة. ولكن اعتبروه من الحالات النادرة. أما في الحالات العاديّة، فقالوا: إنما يمكن رؤيته بعد ما يبتعد القمر من الشمس بعشر درجات وثلاثين دقيقة، فيمكن لرجل حديد البصر أن يراه بشرط الأمن من حواجز الغيم أو الغبار. [13] وقال كثير من الفلكيين: إن الهلال يكون قابلا للرؤية حينما يبتعد عن الشمس باثنتى عشر درجة. وهوالذى اختاره أبو ريحان البيرونى، فقال:
“فإن كانت أكثر من اثنى عشرة وجبت الرؤية، وإن كانت أقل امتنعت، فإن ساوتها أمكنت لأن أدنى عارض يقدح فيها.” [14]
والظاهر أن المتقدمين قدّروه باثنتى عشرة درجة، والمتأخرون استطاعوا أن ينقصوه إلى عشردرجات بسبب مشاهداتهم بالآلات الرصدية الحديثة التى أقوى من الآلات القديمة بكثير.
وبماأن هناك اختلافا في تحديد هذه الفترة، وقد تنتقص أو تزيد حسب عوامل كثيرة، فيمكن أن نقطع بعدم إمكان الرؤية قبل أن يبتعد القمر من الشمس بتسع درجات،  فإنه أعجل مارؤى فيه الهلال ولو نادرا. ولم يقل برؤية الهلال قبل ذلك أحد. فلواكتملت شروط الخبر أو الشهادة لرؤيته بعد ذلك من الذين يوثق بهم، فلا مانع من قبولها. أما إذا كانت الشهادة برؤيته قبل ذلك، فينبغى أن لاتقبل لكون الحسّ يكذّبها، إلا إذا وصلت الأخبار مبلغ التواتر بحيث لايمكن تواطؤ الجميع على الكذب، فحينئذ يمكن نسبة الخطأ إلى الحاسب. والظاهر أن التواتر عند عدم إمكان الرؤية أمر لايحصل أبدا. وإنما ذكرناه على سبيل احتمال عقلي فقط. واشتراط التواتر في هذه الحالة مثلُ مااشترط الحنفية من الاستفاضة أو التواتر عند كون السماء مصحية. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد يُشكل على هذا أن كثيرا من البلاد الإسلامية حكمت بالرؤية حسب الخبر أو الشهادة مع عدم إمكان الرؤية حسابيّا، وعملت بمقتضاها في الماضى؛ فلو أفتينااليوم بعدم قبول ذلك الخبر أو الشهادة، لأدى ذلك إلى بطلان كثير من العبادات في الماضى. والجواب عنه أنه لاشك أن المسئلة مجتهدفيها، فلو حكم العلماء والقضاة على أساس قول مجتهد فيه، لايحكم ببطلان قضاءهم، وإن تغيّر اجتهادهم بعدذلك. فهذاالاجتهاد الجديد لايؤثر على أقضيتهم فيما سبق.

متواصل…………



[1]  فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الامام مالك – (ج 1 / ص 170 ، 171) ط:دار الباز، مكة المكرمة
[2]  فتاوى الرملي على هامش الفتاوى الكبرى للعلامة ابن حجر المكي – (ج 2 / ص 58، 59) ط: المكتبة الإسلامية
[3]  مجموعة رسائل ابن عابدين (ج1 ص248)
[4]  حاشية قليوبى وعميرة على شرح المنهاج للمحلى (ج 2 ص 48) عيسى البابى الحلبى
[5]تحفة المحتاج مع حواشي الشيروانى (ج 3 ص 382)
[6]هكذا فى النسخة المطبوعة، ولعل الصحيح عدم قبول.
[7] فتاوى السبكى، كتاب الصيام (ج 1 ص 217_221).
[8]حواشى الشيرواني على تحفة المحتاج (ج 3 ص 382 و 383).
[9]رسائل ابن عابدين ( ج 1 ص 249).
[10]الشرح الكبير مع الدسوقى (ج 1 ص 510).
[11]المغنى لابن قدامة، (ج 3 ص 94) وفتح القدير(ج 2 ص 251) ونهاية المحتاج (ج 3 ص 152 و 153) .
[12])القانون المسعودى، باب فى رؤية الهلال، (ج 2 ص 339) دارالكتب العلمية، بيروت.
[13]www.moonsighting.com/faq_ms.html
[14]القانون المسعودى، (ج 2 ص 340) باب فى رؤية الهلال، الفصل الأول فى إمكان الرؤية، طبع دارالكتب العلمية، بيروت .

رجب، شعبان، رمضان المبارك 1434ھ