رؤية الهلال
قبول الشهادة برؤية الهلال وموانعها
بحث أعدّ للعرض على مؤتمر مقترح من قبل رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة
﴿القسط الثاني﴾

إثبات هلال الفطر
أما هلال الفطر، فاتفق العلماء على أنه يشترط فيه عدد اثنين على الأقل، إلا ما حكى ابن قدامة عن أبي ثور رحمه الله تعالى من جواز قبول قول الواحد. [1]وهو قول شاذ. ثم اختلفوا هل تقبل فيه شهادة امرأة، فقال الحنفية: تقبل شهادة امرأتين مع رجل واحد كما في سائر الشهادات. [2] وقال الشافعية والمالكية والحنابلة: لاتقبل فيه شهادة النساء لأن الأمر ممايختص بالرجال. قال البهوتى رحمه الله تعالى:
“( ولا يقبل في بقية الشهور ) كشوال وغيره ( إلا رجلان عدلان ) بلفظ الشهادة ؛ لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالبا وليس بمال ولا يقصد به المال(فـ) أشبه القصاص ، وإنما ترك ذلك في رمضان احتياطا للعبادة” [3].
ومثله في الشرح الكبير للدردير والمهذب للأسفرائينى[4].
الإثبات في حالة الصحو
ثم إن المالكية والشافعية والحنابلة لا يفرّقون في إثبات الهلال بين حالة الصحو وحالة العلة، فما يكفي عندهم في حالة الغيم أو العلة يكفي في حالة الصحو أيضا، ولا يشترط الاستفاضة. أما الحنفية فيشترط عندهم الجمع الكثير إن كانت السماء مصحية لاعلة فيها. قال المرغينانى رحمه الله تعالى في الهداية:
” وإذا لم تكن بالسماء علة لم تقبل الشهادة حتى يراه جمع كثير يقع العلم بخبرهم، لأن التفرد بالرؤية في مثل هذه الحالة يوهم الغلط فيجب التوقف فيه حتى يكون جمعاكثيرا، بخلاف ما إذا كان بالسماء علة، لأنه قد ينشق الغيم عن موضع القمر فيتفق للبعض النظر.”
وقال ابن الهمام تحته:
“التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار ، وإن تفاوتت الأبصار في الحدة، ظاهر في غلطه، كتفرد ناقل زيادة من بين سائر أهل مجلس مشاركين له في السماع فإنها تُرد ، وإن كان ثقة، مع أن التفاوت في حدّة السمع واقع أيضا كما هو في الإبصار، مع أنه لا نسبة لمشاركيه في السماع بمشاركيه في الترائي كثرة ، والزيادة المقبولة ما علم فيه تعدد المجالس أو جهل فيه الحال من الاتحاد والتعدد.” [5]
وقداستدل االعلامة التهانوى رحمه الله تعالى على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون.” أخرجه الترمذى وقال:
“غريب حسن، وفسر بعض أهل العلم هذاالحديث فقال: إنما معنى هذاالصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس.” [6]
وقال الشخ التهانوى رحمه الله تعالى:
“وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام أضاف الصوم والفطر والأضحية إلى الجماعة في قوله: “تَصومون وتُفطرون وتُضحّون” فلابد في أصل الحكم من الجماعة الكثيرة أو جميع المسلمين الموجودين في بلدة مثلا في هذه الأحكام إلا إذا عرض عارض ككون السماء مغيمة مثلا فله حكم آخر ثابت بالشرع.” [7]
ثم اختلفت أقوال الحنفية في تحديد الجمع الكثير. قال ابن نجيم رحمه الله تعالى:
” ولم يقدر الجمع الكثير في ظاهر الرواية بشيء فروي عن أبي يوسف أنه قدره بعدد القسامة خمسين رجلا ، وعن خلف بن أيوب: خمسمائة ببلخ قليل، وقيل : ينبغي أن يكون من كل مسجدِ جماعةٍ واحد أو اثنان وعن محمد: أنه يفوض مقدار القلة والكثرة إلى رأي الإمام كذا في البدائع ، وفي فتح القدير: والحق ما روي عن محمد وأبي يوسف أيضا أن العبرة لتواتر الخبر ومجيئه من كل جانب.” [8]
والذى اختاره الحنفية للفتوى أنه ليس لذلك عدد محدد، وإنما المعتبر عدد من الناس من جوانب مختلفة يتيقن به أنهم لم يتواطئوا على الكذب. [9]

ثم إن المالكية وغيرهم وإن لم يشترطواالجمع الكثير في حالة الصحو، ولكنهم قالوا إذا ثبت رمضان بقول واحد (عندالشافعية والحنابلة) أوبقول اثنين (عند المالكية) ثم تمت ثلاثون يوما ولم يرالهلال أحد إلا الذين شهدوا برؤية هلال رمضان، على كون السماء مصحية، فلايجوز الفطر.
قال الدرديررحمه الله تعالى:
“( فإن ) ثبت برؤيتهما و ( لم يُرَ ) لغيرهما ( بعد ثلاثين ) يوما من رؤيتهما حال كون السماء ( صحوا ) لا غيم فيها ( كُذِّبا ) في شهادتهما ، وأما شهادتهما بعد الثلاثين صحوا فكالعدم لاتهامهما على ترويج شهادتهما.” [10]
وبالجملة، فالمشهورالمعمول به عند الحنفية أنه يجب الجمع الكثير في حالة الصحو، ولكن هناك رواية عن الحسن بن زياد عن أبى حنيفة رحمهماالله تعالى أنه يقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كانت السماء مصحية (أو لم تكن)، ومال عدة من الفقهاء الحنفية إلى اختيار هذه الرواية في زماننا، قال صاحب اللباب رحمه الله تعالى:
“وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وإن لم يكن في السماء علة. قال في البحر: ولم أر من رجح هذه الرواية وينبغي العمل عليها في زماننا لأن الناس تكاسلوا عن ترائي الأهلة فكان التفرد غير ظاهر في غلط.” [11]
وقال ابن نجيم رحمه الله تعالى:
” وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان بالسماء علة أو لم يكن، كما روي عنه في هلال رمضان كذا في البدائع ، ولم أر من رجحها من المشايخ ، وينبغي العمل عليها في زماننا ؛ لأن الناس تكاسلت عن ترائي الأهلة فانتفي قولهم مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه فكان التفرد غير ظاهر في الغلط.”
ثم قال أيضا:
وفي الفتاوى الظهيرية :” وإن كانت السماء مصحية لا تقبل شهادة الواحد في ظاهر الرواية بل يشترط العدد واختلفوا في تقديره.”. فظاهره أن ظاهر الرواية لايشترط الجمع العظيم ، وإنما يشترط العدد ، وهو يصدق على اثنين فكان مرجحا لرواية الحسن التي اخترناها آنفا ، ويدل على ذلك أيضا ما في الفتاوى الولوالجية ، وإن كانت السماء مصحية لا تقبل شهادة الواحد وعن أبي حنيفة أنه يقبل ؛ لأنه اجتمع في هذه الشهادة ما يوجب القبول ، وهو العدالة والإسلام وما يوجب الرد ، وهو مخالفة الظاهر فرجح ما يوجب القبول احتياطا ؛ لأنه إذا صام يوما من شعبان كان خيرا من أن يفطر يوما من رمضان وجه ظاهر الرواية أنه اجتمع ما يوجب القبول وما يوجب الرد فرجح جانب الرد ؛ لأن الفطر في رمضان من كل وجه جائز بعذر كما في المريض والمسافر وصوم رمضان قبل رمضان لا يجوز بعذر من الأعذار فكان المصير إلى ما يجوز بعذر أولى. ثم إذا لم تقبل شهادة الواحد واحتيج إلى زيادة العدد عن أبي حنيفة: أنه تقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ، وعن أبي يوسف: أنه لا يقبل ما لم يشهد على ذلك جمع عظيم.” [12]
وقال ابن عابدين رحمه الله تعالى:
“ينبغى ترجيح مااختاره صاحب البحر من الاكتفاء بشاهدين ولو من المصر وقد أقره عليه أخوه الشيخ عمر في النهر وكذا تلميذه التمرتاشى في المنح، وابن حمزة النقيب في نهج النجاة، والشيخ علاؤ الدين في الدرالمختار، والشيخ إسماعيل النابلسي في الإحكام شرح دررالحكام، وقال: إنه حسن. وما عللوا به لاشتراط الجمع العظيم، وهو أن الهمم في طلب الهلال مستقيمة فيدل على غلط من انفرد عنهم برؤيته من واحد أو اثنين أو أكثر، فغير ظاهر في زماننا أيضا كما حكاه صاحب البحر عن زمانه من أن الناس فيه تكاسلوا عن ترائي الأهلة، بل زماننا أولى بذلك فإنه لايتطلب فيه الهلال إلا أقل القليل، ومن رآه منهم وشهد به فقد صار هدفا لسهام ألسنة السفهاء لتسببه في منعهم عن شهواتهم.” [13]
وهذا يدل على أن متأخرى الحنفية مالوا إلى عدم اشتراط الجمع الكثير في حالة الصحو مثل مذهب الجمهور إذا كان الناس يتكاسلون في ترائي الهلال.

متواصل…………


[1].المغنى لابن قدامة 3 :94
[2].البحر الرائق شرح كنز الدقائق – (ج 2 / ص 465، 466)
[3].كشاف القناع ،(ج2 ص 355)
[4].الشرح الكبير للدردير  مع الدسوقى (ج 1 / ص 509 ط:دار الفكر) والمهذب مع المجموع (ج 6 / ص 275 ، 276 ط:دار الفكر)
[5]. فتح القدير (ج 2 ص 251 )
[6]. جامع الترمذى،أبواب الصوم، حديث697.
[7].إعلاء السنن للتها نوى ، (ج 9 ص 128 و 129).
[8].البحرالرائق(ج 2 ص 469).
[9]. رسالة رؤية الهلال للعلامة الشيخ المفتى محمد شفيع رحمه الله تعالى ص 52.
[10].الشرح الكبير للدردير مع الدسوقى، (ج 1 / ص 509 ط:دار الفكر).
[11].اللباب شرح مختصر القدورى (ج1 ص 164).
[12]. البحرالرئق :ج 2 ص 469 و470.
[13]. تنبيه الوسنان على أحكام هلال رمضان، مجموعة رسائل ابن عابدين (ج1 ص 236طبع استانبول)