رؤية الهلال
قبول الشهادة برؤية الهلال وموانعها
بحث أعدّ للعرض على مؤتمر مقترح من قبل رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة
﴿القسط الثالث﴾

استفاضة الخبر
ثم ذكر المالكية والحنفية أن استفاضة الخبر حجة لثبوت الهلال في رمضان وغيره،وسواء كانت السماء مصحية أو غير مصحية، ولايشترط فيه العدالة أو الحرية أو الذكورة. قال الدردير رحمه الله تعالى:
“( أو ) برؤية جماعة ( مستفيضة ) لا يمكن تواطؤهم عادة على الكذب كل واحد منهم يخبر عن نفسه أنه رأى الهلال ولا يشترط أن يكونوا كلهم ذكورا أحرارا عدولا”[1].
وما ذكره الدردير رحمه الله تعالى يفسّر الاستفاضة بما فُسِّر به الجمع الكثير عند الحنفية كما أسلفنا. وقد فسره بعضهم بما فوق الثلاثة، وهو تفسير الأصوليين، ولكن رده الحطاب رحمه الله تعالى في قضية إثبات الهلال. و نصه مايأتى:
“وثبوت الهلال بالاستفاضة من باب الثبوت بالخبر المستفيض، لا من باب الثبوت بالشهادة…ثم قال الأبي : فسّر ابن عبد الحكم الاستفاضة بأنها خبر جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وإن كان فيهم عبيد ونساء .وهذا الذي فسّرها به إنما هو في الحقيقة التواتر ، وفسر الأصوليون الاستفاضة بأنها ما زاد نقلته على ثلاثة وهي بهذا التفسير أعم مما فسرها به ، انتهى … ( قلت )  وما ذكره الأبّي في تفسير الاستفاضة عن الأصوليين قاله ابن الحاجب ونصه : والمستفيض ما زاد نقلته على ثلاثة. وقال ابن السبكي من الشافعية : وأقله اثنان وقيل : ثلاثة ، وظاهر كلام ابن عبد الحكم بل صريحه وظاهر ما تقدم عن ابن عبد السلام والمصنف أن مرادهم بالاستفاضة هنا خلاف ما قاله الأصوليون، وأنه لا بد من جماعة يحصل بهم العلم أو الظن القريب منه وإن لم يبلغوا عدد التواتر فتأمله .” [2].
ولم يتعرض الشافعية والحنابلة للاستفاضة في إثبات الهلال، كما جاء في الموسوعة الفقهية (الكويتية) [3].ولكن الظاهر أنهم يقبلونه وسيلة لإثباته، لأنهم يُثبتون رمضان بخبر واحد، والفطرَ برجلين، فثبوته بالاستفاضة أولى. وقداعتبروالاستفاضة والتسامع وسيلة للإثبات في كثير من الأمور، فالشافعية اعتبرواالاستفاضة وسيلة للإثبات في الأملاك المرسلة، وولاية قاض واستحقاق زكوة ورضاع وجرح وتعديل وإعسار ورشد وأن هذا وارث فلان أو لاوارث له غيره. [4].والحنابلة اعتبروها في النسب والموت والملك المطلق والنكاح عقدا ودواما والطلاق والخلع وشرط الوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل وماأشبه ذلك. [5].
غاية الأمر أنه لايشترط في الاستفاضة العدالةُ والذكورة والحرية، وهم يشترطونه في إثبات الفطر، ولكن التواتر دليل أقوى من شهادة اثنين بداهة، فالظاهر أنهم لايشترطون فيه ما يشترط في شهادة الآحاد. والله سبحانه أعلم.
موانع قبول الشهادة
ثم إن موانع قبول الشهادة في رؤية الهلال هى نفس الموانع التى ذكرهاالفقهاء في سائر الشهادات. ومعظم ماذكره الفقهاء في هذاالباب يتعلق بعدالة الشاهد، وقد سبق منا تعريف العدالة وما ذهب إليه المتأخرون.
ومن موانع قبول الشهادة أن يكذّبها الحسّ. وهذاأمر بديهى. قال ابن عابدين رحمه الله تعالى:
“وكذلك الشهادة التى يكذبهاالحسّ لاتقبل، كما في وقف الخيرية.” [6].
وقال السبكى رحمه الله تعالى:
” فلو أخبرنا مخبر أنه رأى شخصا بعيدا عنه في مسافة يوم مثلا وسمعه يقر بحق وشهد عليه به لم يقبل خبره ولا شهادته بذلك ولا نرتب عليها حكما وإن كان ذلك ممكنا في العقل لكنه مستحيل في العادة.” [7]
ومما يكذبه الحسّ في رؤية الهلال أن يشهد الشاهد بأنه رأى الهلال في غير جهة المغرب مثلا، أو ينفرد بشهادة الرؤية رجل ضعيف البصر، وهذا مما يترك الفصل فيه إلى القاضى.
قال السبكى رحمه الله تعالى:
” فالمستحيل العادي والمستحيل العقلي لا يقبل الإقرار به ولا الشهادة فكذلك المستحيل العادي ، وحق على القاضي التيقظ لذلك وأن لا يتسرع إلى قبول الشاهدين حتى يفحص عن حال ما شهدا به من الإمكان وعدمه ومراتب الإمكان فيه وهل بصرهما يقتضي ذلك أو لا وهل هما ممن يشتبه عليهما أو لا؟”[8]
الحساب الفلكى والشهادة
ولكن المهمّ في هذاالباب: هل يعتبر عدم إمكان الرؤية حسابيا من موانع قبول الشهادة؟ بمعنى أنه إذااتفق المحاسبون الفلكيّون على أنه لم يولد الهلال بعدُ، أووُلد و لكن لم يمرّعلى ولادته وقت يمكن فيه رؤيته بالبصر، ثم اكتمل نصاب الخبر أو الشهادة حسب ماذكرناه، هل تعتبر تلك الشهادة، أو تُردّ على كونها يكذّبهاالحسّ؟ اختلف فيه الفقهاء. والمذكور في عامة كتب الفقه أنه لاعبرة بقول المنجّمين أو الفلكيين، وإنما المعتبر هو شهادة الرؤية بالبصر.
إثبات الهلال بالحساب
أماالاعتماد على الحساب في إثبات الهلال بصفة عامة، فاتفقت المذاهب المتبوعة على نفيه، بل صرّحوا بأنه لايجوز الاعتماد عليه، وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“لا تصوموا حتى ترواالهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم فاقدرواله.” [9]
ثم إن بعض العلماء علّلوا نفي اعتبار الحساب بكونه حدسا وتخمينا. فحكى الزرقانى عن النووى رحمهماالله تعالى قوله:
“إن عدم البناء على حساب المنجمين لأنه حدس وتخمين، وإنما يعتبر منه ما يعرف به القبلة والوقت.” [10]
وكذلك حكى الحافظ ابن حجر عن ابن بزيزة قوله:
“وهو (أى اعتبارالحساب) مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب.” [11]
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
“إن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حسابا مستقيما، بل لايمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقا كما سلك الأولون منهم من لم يضبطوا سيره إلا بالتعديل الذي يتفق الحسّاب على أنه غير مطرد، وإنماهو تقريب.” [12]
وهكذا اعترف الفلكيون في ذلك العصر أنه لايمكن القطع بوجوب رؤية الهلال أو امتناعه على أساس الحساب. قال أبوريحان البيرونى الفلكى المشهور:
“إن علماء الهيئة مجمعون على أن المقادير المفروضة في أواخر أعمال رؤية الهلال هى أبعاد لم يوقف عليها إلا بالتجربة. وللمناظر أحوال هندسية يتفاوت لأجلهاالمحسوس بالبصر في العظم والصغر وفيما إذا تأملها متأمل منصف لم يستطع بتّ الحكم على وجوب رؤية الهلال أو امتناعها.” [13]
ومقتضى هذاالتعليل أنه لووجد اليوم حساب مبنى على آلات رصدية لم تكن متوافرة في الماضى بحيث يفيد الحساب بها القطع أو الظن الغالب جاز الاعتماد عليه. ولكن لم يعلّل كثير من العلماء عدم اعتبار الحساب بأنه حدس وتخمين، وإنما علّلوه، بعد اعترافهم بكون الحساب قطعيا، بأن النبى الكريم صلى الله عليه وسلم لم يربط الصوم والإفطار بخروج القمر عن شعاع الشمس، وإنما ربطه صلى الله عليه وسلم بالرؤية الفعلية. وبهذا فرّقوا بين اعتبار الحساب في مواقيت الصلوة وعدم اعتبارها في ثبوت الشهر. يقول الإمام القرافي رحمه الله تعالى:
“وأما الأهلة فقال الفقهاء رحمهم الله تعالى حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة وإن كان قطعيا منضبطا بسبب أن الله تعالى أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبعة السيارة التي أشار إليها بعضهم بقوله : زحل شرى مريخه من شمسه فتزاهرت لعطارد الأقمار على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم قال الله تعالى: “وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُوْنِ الْقَدِيْمِ.”وقال تعالى : “الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ” أي هما ذو حساب فلا ينخرم ذلك أبدا كما لا ينخرم حساب الفصول الأربعة التي هي الصيف والشتاء والربيع والخريف ، والعوائد إذا استمرت أفادت القطع كما إذا رأينا شيخا نجزم بأنه لم يولد كذلك بل طفلا لأجل عادة الله تعالى وإن جوز العقل ولادته كذلك إلا أنه يعتمد في خروج الأهلة من الشعاع على حصول القطع بالحساب كما اعتمد عليه في أوقات الصلوات ؛ لأنه لا غاية بعد حصول القطع بسبب أن صاحب الشرع لم ينصب خروج الأهلة من الشعاع سببا للصوم كما نصب أوقات الصلوات سببا لوجوبها نصب رؤية الهلال خارجا من شعاع الشمس أو إكمال العدة ثلاثين ولم يتعرض لخروج الهلال عن الشعاع فقد قال صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.” ولم يقل لخروجه عن شعاع الشمس كما قال تعالى: “أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوْكِ الشَّمْسِ.” ثم قال صلى الله عليه وسلم: “فإن غُمّ عليكم” أي خفيت عليكم رؤيته “فاقدروا له” وفي رواية : “فأكملوا العدّة ثلاثين.” [14]
وهذاالتعليل، وإن كان فيه مجال كلام، ولكنه هوالذى أخذبه الفقهاء السالفون قاطبة، إلا ماروى في بعض الأقوال التى اعتبرت شاذة. فمنها ما ذكر ابن رشد عن مطرّف بن عبدالله ابن الشّخّير من التابعين أنه قال:
“يعتبر الهلال إذا غُمّ بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب.” [15]
وجمع الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى هذه الأقوال، وإنها جاءت تفسيرا لقوله صلى الله عليه وسلم:” فإن غُمّ عليكم فاقدرواله.” كما تقدم عن صحيح البخارى. قال الحافظ رحمه الله تعالى:
تقدم أن للعلماء فيه تأويلين ، وذهب آخرون إلى تأويل ثالث ، قالوا : معناه فاقدروه بحساب المنازل . قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين . قال ابن عبد البر : لا يصح عن مطرف ، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا . قال : ونقل ابن خويز منداد عن الشافعي مسألة ابن سريج والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور ، ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله ” فاقدروا له ” خطاب لمن خصه الله بهذا العلم ، وأن قوله ” فأكملوا العدة ” خطاب للعامة . قال ابن العربي : فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد ، قال : وهذا بعيد عن النبلاء . وقال ابن الصلاح : معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة ، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد ، قال : فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم ، وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه . ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه وإنما قال بجوازه ، وهو اختيار القفال وأبي الطيب ، وأما أبو إسحاق في ” المهذب ” فنقل عن ابن سريج لزوم الصوم في هذه الصورة فتعددت الآراء في هذه المسألة بالنسبة إلى خصوص النظر في الحساب والمنازل : أحدها الجواز ولا يجزئ عن الفرض ، ثانيها يجوز ويجزئ ، ثالثها يجوز للحاسب ويجزئه لا للمنجم،  رابعها يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم ، خامسها يجوز لهما ولغيرهما مطلقا . وقال ابن الصباغ أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا . قلت : ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك . فقال في الإشراف : صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة ، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته ، هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره ، فمن فرق بينهم كان محجوجا بالإجماع قبله.” [16]
هذاكله في إثبات الهلال بالحساب، والظاهر مما ذكرنا من كلام الفقهاء في هذاالباب أن الأخذ بالحساب في إثبات الهلال مخالف لقول جماهير الفقهاء رحمهم الله تعالى, وإن كان يحتاج إلى تأمل في الموضوع نظرا إلى تطور طرقه في زماننا، ونظراإلى قوله تعالى:
﴿يَسْئَلُوْنَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيْتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ (سورة البقرة: 189 ) حيث جعل الأهلّة نفسها مواقيت دون رؤيتها، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (سورة يونس: 5) وقوله تعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُوْنِ الْقَدِيْمِ. لَاالشَّمْسُ يَنْبَغِى لَهآ أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ (يس:39 و40) وقوله تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ (سورة الرحمن:5)
والله سبحانه وتعالى أعلم.

متواصل…………



[1]. الشرح الكبير مع الدسوقى (ج1 ص 509، دارالفكر
[2]. دار الفكر 1398 ه  مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل – (ج 2  ص 383، 384)
[3]. الموسوعة الفقهية ، مادة “الرؤية”
[4]. راجع نهاية المحتاج للرملى ، كتاب الشهادة،فصل فى بيان قدر النصاب فى الشهود (ج8 ص 301، 302) دار إحياء التراث العربي، بيروت.
[5]. راجع كشاف القناع للبهوتى كتاب الشهادات،(ج6 ص403)
[6].العقود الدرية فى تنقيح الفتاوى الحامدية، (ج 1 ص 337) دارالمعارف ، بيروت،وراجع أيضا منتهى الإرادات، آخر كتاب القضاء، (ج 5 ص 345)، مؤسسة الرسالة، وحاشية أسنى المطالب ، الباب الثانى من كتاب الشفعة (ج 5 ص 305) دارالكتب العلمية.
[7].  فتاوى السبكى (ج 1 ص 220) مكتبة القدسي 1356 .
[8]. المرجع السابق
[9]. أخرجه البخارى فى الصحيح عن ابن عمر رضى الله عنهما”  كتاب الصوم، باب11، حديث 1906
[10]. شرح الموطأ للزرقانى، كتاب الصيام، باب ما جاء فى رؤية الهلال (ج 2 ص 154)
[11]. فتح البارى، كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لانكتب ولانحسب، (ج 4 ص 127، دارنشرالكتب الإسلامية)
[12]. مجموع فتاوى ابن تيمية، (ج 25 ص 183)
[13]. الآثار الباقية عن القرون الخالية ص 198 طبع ليزك1923، كمافى رسالة رؤية الهلال للشيخ المفتى محمد شفيع رحمه الله تعالى ص 31 و32
[14]. أنوار البروق في أنواع الفروق  – ( ج 2  ص 179) دارالمعرفة، بيروت
[15]. مقدمات ابن رشد (ج 1 ص 188) كما أحيل إليه فى الموسوعة الفقهية الكويتية، مادة “رؤية الهلال”
[16].  فتح الباري لابن حجر – (ج 4 / ص122،123)

ربیع الثانی، جمادی الأولى، جمادى الثانية ١٤٣٤ھ