رؤية الهلال
قبول الشهادة برؤية الهلال وموانعها

 

بحث أعدّ للعرض على مؤتمر مقترح من قبل رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا محمّد خاتم النبيين وإمام المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمابعد:
فإن الله E جعل الأهلة مواقيت لمعرفة بداية الأشهر الشرعية حيث قال E:= یَسۡـَٔلُوۡنَکَ عَنِ الۡاَہِلَّۃِ ؕ قُلۡ ہِیَ مَوَاقِیۡتُ لِلنَّاسِ وَ الۡحَجِّ ؕ  (سورة البقرة: 189)
وبما أن الدين يسر، فإن رسول الله Hجعل للأمة الإسلامية طريقا بسيطا لمعرفة بداية الشهر يستوي فيه العالم والجاهل، وهو قوله H: “صوموا لرؤيته،  وأفطروا لرؤيته،” وكان هذا طريقا طبيعيا سارت عليه الأمة الإسلامية طوال القرون، دون أن تكون هناك مشاكل كبيرة في تطبيقه العملي، ولكن حدثت المشاكل منذ أن انكمشت المسافات بين البلاد البعيدة بفضل المراكب السريعة ووسائل الاتصال الحديثة ، و أصبح العالم كله بمرأى ومسمع من كل أحد، وحينئذ ظهرت الخلافات في قضية ثبوت الهلال ورؤيته، حتى أصبحت هذه القضية معضلة من معضلات العصر، ووقع بين التواريخ القمرية فيما بين البلاد الإسلامية فرق كبير ربما وصل إلى فرق أربعة أيام.
وحيث اختلفت وجهات النظر في موضوع اختلاف المطالع، والأخذ بالحساب، وشروط قبول الخبر أو الشهادة، فكثيرا ما يقع أن البلد الواحد يصوم فيه قوم في يوم واحد ويُفطر آخرون، والحالة في الجاليات المسلمة في البلاد الغربية أسوأ لفقدان جهةٍ تحكُمهم من الناحية الشرعية، فكثيرا مّا يكون هناك عيدان أو ثلاثة أعياد في بلد واحد وسنة واحدة، وتنقسم بذلك الأسَر والمساجد والمراكز الإسلامية، ولاشك أن هذا الوضع مخالف تماما لما أكد عليه القرآن والسنة من توحيد كلمة المسلمين و جمع صفوفهم ومنع التفرق والشقاق فيما بينهم.
ولقد أحسن المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في عقد هذا المؤتمر الحاشد لدراسة هذا الموضوع دراسة وافية لجميع جوانبه من قبل العلماء والخبراء ذوي الاختصاص. فجزى الله رئاسة المجمع وأمانته خيرا لهذه البادرة الطيبة التي ندعوالله سبحانه أن يمُِدّها بتوفيقه ويُكللّها بالنجاح التام، لحل مشاكل المسلمين في جميع أنحاء المعمورة، والله سبحانه ولي التوفيق وهو المستعان وعليه التكلان.
ومازلت أشاهد أسباب الاختلاف في رؤية الهلال في بلاد مختلفة منذ سنوات طويلة، فوجدت أن حلّ هذه المشكلة ليس صعبا لو اتفقت الأمة الإسلامية على موضوعين:
الأول موضوع اختلاف المطالع.
والثاني: شروط قبول الشهادة وهل يؤثر الحساب الفلكي على قبول شهادة الرؤية؟
وبماأن الموضوع المفوض إليّ في هذا المؤتمر هو “شروط قبول الشهادة بالرؤية وموانعها” فإني أريد أن أتكلم في هذا البحث عن هذا الموضوع أولا، ثم أنتقل إلى موضوع اختلاف المطالع، والله سبحانه وتعالى هوالموفق للسداد والصواب.
وحيث إن كثيرا من الفقهاء فرّقوا بين هلال رمضان و هلال الفطر والأضحى من حيث ثبوتُ رؤيته، فالمناسب أن نتحدث عن هلال رمضان أولا، وعن هلال الأشهر الأخرى ثانيا:
إثبات شهررمضان
أماإثبات شهررمضان، فاختلف فيه الفقهاء على أقوال:
الأول: أنه لايحتاج إلى شهادة شرعية، بل يكفي خبر واحد عدل. وهو قول الحنابلة، وبه قال الحنفية في غير حالة الصحو.
يقول ابن قدامة رحمه الله تعالى:
“المشهورعن أحمد أنه يقبل في هلال رمضان قول واحد عدل، ويلزم الناس الصيام بقوله، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن المبارك…فإن كان المخبر امرأة فقياس المذهب قبول قولها، وهو قول أبي حنيفة…لأنه خبر ديني، فأشبه الرواية والخبر عن القبلة ودخول وقت الصلوة، ويحتمل أن لاتُقبل، لأنه شهادة برؤية الهلال، فلم يقبل فيه قول امرأة. “[1].
وجاء في اللباب شرح مختصر القدوري (في بيان مذهب الحنفية):
{(وإن كان بالسماء علة ) من غيم أو غبار ونحوه ( قبل الإمام شهادة الواحد العدل) وهو الذي غلبت حسناته سيئاته، والمستور في الصحيح كما في التجنيس والبزازية. قال الكمال : وبه أخذ شمس الأئمة الحلواني ( في رؤية الهلال رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا )؛ لأنه أمر ديني فأشبه رواية الأخبار، ولهذا لا يختص بلفظ الشهادة، وتشترط العدالة لأن قول الفاسق في الديانات غير مقبول؛ وتأويل قول الطحاوي ” عدلا أو غير عدل ” أن يكون مستورا” [2].
القول الثاني: أنه يقبل في رمضان شهادة واحد عدل، ولكن يجب أن يتوافرفيه شروط الشهادة، فيجب أن يشهد بقوله : “أشهد” وأن يكون ذكراً حراً بالغًا، وهو الصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. قال الشيرازي في المهذب:
” وقال في القديم والجديد: يقبل من عدل واحد وهو الصحيح،…لأنه إيجاب عبادة؛ فقبل من واحد احتياطاً للفرض. فإن قلنا يقبل من واحد فهل من العبد والمرأة ؟ فيه وجهان: أحدهما يقبل، لأن ما قبل فيه قول الواحد قبل من العبد والمرأة كأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: لا يقبل وهو الصحيح لأن طريقها طريق الشهادة بدليل أنه لا تقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل، فلم يقبل من العبد والمرأة كسائر الشهادات” [3].
والقول الثالث: أنه لابد من خبر ذكرين، وهو قول مالك، والليث بن سعد، والأوزاعي، وإسحاق رحمهم الله تعالى، كما حكى عنهم ابن قدامة رحمه الله تعالى.  قال الدردير في الشرح الكبير:
(يثبت رمضان ) أي يتحقق في الخارج، وليس المراد خصوص الثبوت عند الحاكم بأحد أمور ثلاثة إما ( بكمال شعبان ) ثلاثين يوما …( أو برؤية عدلين ) الهلال … فكل من أخبره عدلان برؤية الهلال أو سمعهما يخبران غيره وجب عليه الصوم؛ لابعدل؛ ولا به وبامرأة؛ ولا به وبامرأتين؛ على المشهور في الكل .” [4].
واستدل المالكية على وجوب شاهدين بما أخرجه النسائي عن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب قال:
“أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه، فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا، وأفطروا[5].
وكذلك أخرج أبوداود والدارقطنى عن أمير مكة الحارث بن حاطب قال:
“عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما”
ذكره الشوكاني في نيل الأوطار، وقال:
“سكت عنه أبوداود والمنذري، و رجاله رجال الصحيح إلا الحسين بن الحارث الجدلي وهو صدوق، وصححه الدارقطني كماذكر المصنف، والحارث بن الحاطب المذكور له صحبة.” [6].
وأما الحنفية والحنابلة والشافعية الذين يقبلون خبر الواحد أو شهادته فحجتهم ماأخرجه أبوداود والنسائي والترمذي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
“جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال! أذّن في الناس أن يصوموا غدا.” وهذا لفظ الترمذي [7].
وقال الترمذي بعد إخراجه:
“حديث ابن عباس فيه اختلاف. وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم، قالوا: تقبل شهادة رجل واحد في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وأهل الكوفة. قال إسحق: لا يصام إلا بشهادة رجلين.”
وكذلك حجتهم حديث عبدالله بن عمررضي الله تعالى عنهما قال:
” تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه” [8].
وقال العلامة عليّ القاري رحمه الله تعالى تحت هذا الحديث:
“رواه أبوداود والدارمي. قال ميرك نقلا عن التصحيح: ورواه الحاكم، وقال: على شرط مسلم، ورواه البيهقي اهـ . وصححه ابن حبان، وقال النووي: إسناده على شرط مسلم” [9].
وأما حديث عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب وحديث الحارث بن حاطب، وهما حديثان  تمسك بهما المالكية، فأجاب عنهما ابن قدامة رحمه الله تعالى بأن “خبرهم إنمايدل بمفهومه، وخبرنا أشهر، و هو يدل بمنطوقه فيجب تقديمه” [10].
عدالة المخبر أوالشاهد
ثم إن الشافعية والحنابلة والمالكية يشترطون العدالة في المخبر أوالشاهد، فلا يقبل خبر من كان مستورالحال. يقول البهوتى ـ رحمه الله تعالى ـ
“( لا ) يقبل فيه قول ( مستور ولا مميز ) لعدم الثقة بقوله” [11].
وأما الإمام أبوحنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ فعنه في خبر المستور روايتان: إحداهما الجواز، واختاره الطحاوي، والثانية ظاهر الرواية أنه لا يقبل خبر المستور.
قال ابن نجيم ـ رحمه الله تعالى ـ :
” وتشترط العدالة في الكل ؛ لأن قول الفاسق في الديانات التي يمكن تلقيها من العدول غير مقبول كالهلال ورواية الإخبار، ولو تعدد كفاسقين فأكثر كذا في الولوالجية، بخلاف ما لا يتيسر تلقيه منهم حيث يتحرى في خبر الفاسق كالإخبار بطهارة الماء ونجاسته، وحلّ الطعام وحرمته، وبخلاف الهديّة والوكالة ، وما لا إلزام فيه من المعاملات حيث يقبل خبره بدون التحرّي للزوم الضرورة ، ولا دليل سواه فوجب قبوله مطلقا… وأما مجهول الحال ، وهو المستور، فعن أبي حنيفة قبوله، وظاهر الرواية عدمه؛ لأن المراد بالعدل في ظاهر الرواية من ثبتت عدالته ، وأن الحكم بقوله فرع ثبوتها ، ولا ثبوت في المستور ، وما ذكره الطحاوي من عدم اشتراط العدالة فمحمول على قبول المستور الذي هو إحدى الروايتين ، وصحح البزازي في فتاويه قبول المستور ، وهو خلاف ظاهر الرواية كما علمت. أما مع تبين الفسق فلا قائل به عندنا” [12].
ثم العدالة في أصلها ما عرّفه ابن نجيم بقوله:
“وحقيقة العدالة ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ، والشرط أدناها ، وهو ترك الكبائر والإصرار على الصغائر ، وما يخل بالمروءة كما عرف تحقيقه في تعريف الأصول، فلزم أن يكون مسلما عاقلا بالغا ، وأما الحرية والبصر وعدم الحد في قذف، وعدم الولاء والعداوة فمختص بالشهادة” [13].
ولكن تسامح الفقهاء المتأخرون في هذه الشروط نظرا إلى تغير أحوال الناس وانتقاص الوازع الدينى بحيث رأوا أنه إذا اشتُرط المستوى المطلوب من العدالة لأدى ذلك إلى إضاعة حقوق الناس، فاكتفوا بأن يكون المخبر أو الشاهد صادق اللهجة بحيث يغلب على الظن صدقه.
قال الطرابلسي رحمه الله تعالى:
” قال القرافي في باب السياسة : نص بعض العلماء على أنا إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول أقمنا أصلحهم وأقلهم فجورا للشهادة عليهم ، ويلزم ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح .
قال : وما أظن أحدا يخالف في هذا ؛ فإن التكليف شرط في الإمكان ، وهذا كله للضرورة لئلا تهدر الأموال، وتضيع الحقوق [14].
قال بعضهم : وإذا كان الناس فساقا إلا القليل النادر قبلت شهادة بعضهم على بعض ، ويحكم بشهادة الأمثل، فالأمثل من الفساق ، هذا هو الصواب الذي عليه العمل وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم ، كما أن العمل على صحة ولاية الفاسق ونفوذ أحكامه وإن أنكروه بألسنتهم ، وكذلك العمل على صحة كون الفاسق وليا في النكاح ووصيا في المال ، وهذا يؤيد ما نقله القرافي ، وإذا غلب على الظن صدق الفاسق قبلت شهادته، وحكم بها ، والله تعالى لم يأمر برد خبر الفاسق فلا يجوز رده مطلقاً، بل يتثبت فيه حتى يتبين صدقه من كذبه، فيعمل على ما تبين، وفسقه عليه .
واعلم أن لرد شهادة الفاسق مأخذين : أحدهما عدم الوثوق به، وأنه يحمله قلة مبالاته بدينه، ونقصان وقار الله تعالى في قلبه على تعمد الكذب .الثاني: هجره على إعلانه بفسقه ومجاهرته به ، فقبول شهادته فيها إبطال لهذا الغرض المطلوب شرعاً ، فإذا علم صدق لهجته، وأنه من أصدق الناس، وأن فسقه بغير الكذب فلا وجه لرد شهادته .
وقد استأجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هاديا يدله على طريق المدينة وهو مشرك على دين قومه ، ولكن لما وثق بقوله أمنه، ودفع إليه راحلته، وقبل دلالته .
وقال أصبغ بن الفرج من أئمة المالكية : إذا شهد الفاسق عند الحاكم وجب عليه التوقف في القضية ، وقد يحتج له بقوله تعالى: = یٰۤاَیُّہَا  الَّذِیۡنَ اٰمَنُوۡۤا  اِنۡ جَآءَکُمۡ فَاسِقٌۢ بِنَبَاٍ فَتَبَیَّنُوۡۤا …..%.
وقال ابن قيم الجوزية الحنبلي : وسر المسألة أن مدار قبول الشهادة وردها على غلبة الصدق وعدمه. قال : والصواب المقطوع به أن العدالة تتبعض ، فيكون الرجل عدلا في شيء فاسقا في شيء ، فإذا تبين للحاكم أنه عدل فيما شهد به قبلت شهادته، ولم يضره فسقه في غيره ، وأصل هذا ما وقع في المحيط والقنية : إذا كان الرجل يشرب سرا وهو ذو مروءة فللقاضي أن يقبل شهادته” [15]

متواصل…………


[1]. المغنى لابن قدامة،(3:92)دارالكتب العلمية” بيروت
[2].اللباب شرح القدوري1:163 ، دار إحياء التراث العربي
[3].المهذب في فقه الإمام الشافعي (مع المجموع) – (ج 6 / ص265) دار الفكر
[4].الشرح الكبير للدردير مع حاشيته للدسوقى (ج1ص 509) دارالفكر
[5].سنن النسائي، كتاب الصوم باب 8، حديث 2116
[6].نيل الأوطار” كتاب الصيام(ج4 ص 553 حديث 1629) دار الحديث، القاهرة
[7].جامع الترمذى، كتاب الصوم حديث 691
[8].سنن أبي داود، كتاب الصوم، حديث 2342
[9].مرقاة المفاتيح، (ج 4 ص473)
[10].المغني لابن قدامة 3:93
[11].كشاف القناع للبهوتى(ج 2 ص354)مكتبة حكومة المملكة العربية السعودية
[12].البحر الرائق (ج 2 ص 465) دارالكتب العلمية، بيروت
[13].المرجع السابق
[14].راجع الذخيرة للقرافي (ج10 ص 46) دارالغرب
[15].معين الحكام – ( الباب 22 من القسم الثاني ص145، 146) المطبعة الميمنية، مصر

شوال، ذوالقعدة، ذوالحجة ١٤٣٣ھ