حکم الصلوات والصوم

[مقتبس من “تكملة فتح الملهم” (6: 191 إلى 196) شرح سماحة الشيخ المفتى محمد تقي العثماني حفظه الله تعالى على الصحيح للإمام مسلم رحمه الله تعالى]
بسم الله الرحمٰن الرحیم
حکم الصلوات فی بلاد غیر معتدلة اللیل والنهار
……عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟ قلنا يا رسول الله ذكرت الدجال غداة، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قَطَطٌ، عينه طافئة، كأني أشبّهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف. إنّه خارج خلّةً بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبُتُوا. قلنا: يا رسول الله! وما لَبثه في الأرض؟ قال أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره ……..[الحديث]

حکم الصلوات فی بلاد غیر معتدلة اللیل والنهار :
وبهذا الحدیث یُعرف حکم الصلوات فی البلاد التی لا یعتدل فیه الليل والنهار، فهناك مناطق لا یوجد فیها وقت العشاء مثلاً، ومناطق أخریٰ یطول فیها النهار، أو اللیل إلیٰ أکثر من أربع وعشرین ساعة، وقد تکلم الفقهاء قدیماً وحدیثاً فی حکم اداء الصلوات فی مثل هذه المناطق، ونرید أن نأتي ههنا بخلاصة القول فی هذه المسئلة بشیئ من التفصیل، لأن الیوم قد وصل المسلمون إلیٰ کثیر من هذه المناطق، فهناك حاجة عملیة تدعوا إلیٰ معرفة الحکم الشرعیّ للصلوٰة والصوم فیها، ونسأل الله التوفیق للسداد والصواب کما یحبه ویرضاه تبارك وتعالیٰ، وهو الموفق والهادی إلیٰ سواء السبیل.
فاعلم أن المناطق غیر المعتدلة تنقسم إلیٰ ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المناطق التی تکمل فیها دورة اللیل والنهار فی أربع وعشرین ساعة، ولکن لا توجد فیها أوقات بعض الصلوات بعلاماتها المعروفة، مثل غیبوبة الشفق فی صلاة العشاء.
القسم الثانی : المناطق التی تکمل فیها دورة اللیل والنهار فی أربع وعشرین ساعة، وتوجد فیها جمیع أوقات الصلاة بعلاماتها المعروفة، غیر أن بعض هذه الأوقات قصیرة جداً، والفصل بینها وبین الوقت اللاحق قلیل جداً.
القسم الثالث : المناطق التی لا تکمل فیها دورة اللیل والنهار فی أربع وعشرین ساعة، بل یدوم اللیل فی بعض الفصول والنهار فی بعضها إلیٰ زمن طویل.
فلنتکلم عن کل من هذه الأقسام الثلاثة علیٰ حدة :
القسم الأول : المناطق التی یفقد فیها علامات بعض الأوقات
أما القسم الأول، فإن البلاد التی تقع فیه تکمل فیها دورة اللیل والنهار فی أربع وعشرین ساعة، ولکن لا توجد فیها فى بعض الفصول علامة وقت العشاء، وهو المناطق التی تقع علیٰ عرض 48.5 فى الشمال أو علیٰ عرض أکثر منها، فمثلاً لا یغیب الشفق فی مدینة باریس (وهی علیٰ عرض 49) ما بین 11/ یونیو إلیٰ أول شهر یولیو کل سنة، وإن أقصر لیل فی هذه المنطقة إنما تستغرق سبع ساعات وسبعاً وأربعین دقیقة، ولذلك لتاریخ 21 یونیو، وإن الشفق فی هذه المدة لا یزال موجوداً علیٰ الأفق طول اللیل حتیٰ تطلع الشمس، وکلما ازداد عرض البلاد فی الشمال صارت مدة فقدان علامة العشاء أکثر، فمثلاً لا یغیب الشفق فی مدینة لندن، (وهی علیٰ عرض واحد وخمسین فی الشمال) فیما بین 25 مایو إلیٰ 17 یولیو (یعنی مدة شهر وثلاثة وعشرین یوماً) وفی مدینة ایدنبرغ وگلاسگو (الواقعتین علیٰ عرض 56 فی الشمال) فیما بین 5 مایو و 7 اغسطس (مدة ثلاثة وثلاثة أیام) وهکذا تزداد مدة فقدان علامة العشاء فی فصل الصیف بزیادة عرض البلاد فی الشمال، حتیٰ أن على عرض خمسة وستین، الذی تقع فیها بلاد ناروے وسویدن وفن لیند، لا یغیب الشفق فیما بین 7 ابریل و 3 سبتمبر، وإن أقصر لیل فی هذه المناطق إنما یدوم مدة ساعة واحدة وسبع وخمسین دقیقة فقط، وذلك للواحد وعشرین من شهر مایو.
وبما أن وقت العشاء إنما یدخل بعلامته المعروفة، وهی غیبوبة الشفق، والشفق لا یغیب فی هذه المناطق فی التواریخ المذکورة، فإنها لا یوجد فیها وقت العشاء المعروف، فما هو حکم صلاة العشاء فی هذه المناطق؟
وقد تحدث الفقهاء عن هذه المسئلة، فإنه قد عرض علیهم مسئلة الصلوات فی مدینة بُلغار، وکانت مدینة تقع علیٰ عرض خمس وخمسین فی الشمال، کما ذکره المرجانی فی کتابه “ناظروة الحق” (ق 84) أو علیٰ عرض خمسین، کما ذکره القلقشندی فی صبح الأعشیٰ 4 : 462، وذکر القلقشندی أن طولها ثمانون درجة .[۱]
واختلف الفقهاء فی حکم صلاة العشاء فی بُلغار ونحوها من المناطق التی لا یغیب فیها الشفق، فذهبت جماعة من العلماء إلیٰ أن أهل هذه المناطق تسقط عنهم فرضیة صلاة العشاء، وذلك لأن سبب الفرضیة، وهو الوقت، مفقود فی حقهم، وهذا القول منسوب إلیٰ شمس الإئمة الحلوانی البقالی من الحنفیة ورجحه الشرنبلالی کما فی رد المحتار 1 : 362 والحلبی فی شرح المنیة 1 : 230.
وذهبت جماعة منهم إلیٰ أنه لا تسقط عنهم صلاة العشاء، بل یجب علیهم أن یصلوا العشاء بتقدیر الوقت، وطرق التقدیر مختلفة ستأتی إن شاء الله، وهذا ما اختاره البرهان الکبیر، والمحقق ابن الهمام، وتلمیذاه ابن أمیر الحاج وقاسم ابن قطلوبغا من الحنفیة، وهو الذی جزم به الشافعیة کما فی مغنی المحتاج 1 : 123 واختاره القرافی من المالکیة، کما فی حاشیة الصاوی علیٰ الدردیر 1 : 225.
استدل أهل القول الأول بقوله تعالیٰ : ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ فإنه یدل علیٰ أن فرضیة الصلوات مرتبطة بالأوقات، فإن لم یوجد الوقت لم تجب الصلاة، وذکر ابن عابدین رحمه الله أن الحلوانی کان یفتی بوجوب القضاء، ثم وافق البقالي لما أرسل إلیه الحلوانی من یسئله عمن أسقط صلاة من الخمس أیکفر؟ فأجاب السائل بقوله : من قطعت یداه أو رجلاه کم فرض وضوءه؟ فقال له : ثلاث لفوات المحل، قال : فکذلك الصلاة، فبلغ الحلواني ذلك فاستحسنه ورجع إلیٰ قول البقالي بعدم الوجوب.
وأما أهل القول الثانی : الذین ذهبوا إلیٰ وجوب العشاء بالتقدیر، فاستدلوا بحدیث الباب، حدیث الدجال، حیث أمرهم رسول الله ﷺ بأداء الصلوات فی هذه الأیام غیر العادیّة بتقدیر الأوقات، وإن هذا الاستدلال ظاهر علیٰ قول من یحمل طول أیام الدجال علیٰ الطول الحقیقیّ ببطوء حرکة الشمس أو الأرض، أما علیٰ قول من حمله علیٰ السحر والتخییل، کما قدمنا عن التوربشتی رحمه الله، فیمکن أن یقال إن الإنسان مکلف بما یشاهده، فمن شاهد أن النهار قائم، فإنه یعامله معاملة النهار، وإن کان سببه السحر والتخییل، فلما أمره النبی ﷺ بتقدیر الأوقات للصلوات، تبین أن ذلك حکم لکل من طال نهاره علیٰ خلاف العادة، فإنه یصلی العشاء مع أنه لم یدخل له وقت العشاء فی الظاهر، فتقاس علیٰ ذلك المناطق التی لا یغیب فیها الشفق طول اللیل، ولا یدخل فیها وقت العشاء فی الظاهر، فیصلون العشاء بالتقدیر.
وإن العلّامة هارون بن بهاء الدین المرجانی رحمه الله [۲] قد ألف فی تحقیق هذه المسئلة رسالة مستقلة باسم “ناظورة الحق، فی فرضیة العشاء وإن لم یغب الشفق” ولم أرها مطبوعاً حتیٰ الآن، ولکن قد حصلت منها علیٰ نسخة مصوّرة من مکتب الشیخ محب الله الراشدی المعروفة بمکتبة پیر جهنڈو فی سعید آباد، السند، وإن مؤلفه قد رجّح هذا القول الثانی، وأتیٰ له بأدلة مقنعة، ورد علیٰ أهل القول الأول بکلام متین جداً، فقال رحمه الله تعالیٰ:
“وتلخیص البیان أن کون الأوقات أسباباً لوجوب الصلوات، ووجودها مشروط بتحقیق العلامات مما لا مساغ له قطّ، فلا نسلم فقد الأوقات بانتفائها، ولا سقوط الصلوات بفقدانها، ولو قدر التسلیم فی ذلك، فما عرف منها علامة بقطع بنص الشارع هو الغدوة، والظهیرة، والعشیة، والمساء، والزلفة، وأما نحو صیرورة الظل وغیبوبة الشفق، فلو ثبت شرطاً، فإنما یثبت بدلیل ظنی، وبمدخل من الرأي، لأن الإجمال الذی فی حدود الأوقات وفواصل الغایات ما بُیّن فی مسئلتنا إلا بأخبار الآحاد، وبآثار ظنیة المفاد.
ولئن قُدّر أنه ثبت ببرهان قطعی من النص والإجماع کون الواجب مسبَّباً عنها، وانتفاء هذه العلامات موجباً لفقدانها، حق القول بالواجب، ولزوم نفي السقوط مع عدم المقدمات والشروط، لأن دلائل الوجوب، وإن كان بعضها مقیداً، لکن بعضها مطلق فی الإثبات، فلما فرض انتفاء موجب المقید، سقط اعتباره، وبقي المطلق سالماً فی موجبه، فیجب العمل به، إذ حاصل معنی الخطاب علیٰ ذلك التقدیر : کُتب علیکم العشاء فی کل یوم یغیب فیه الشفق تارةً، وکتب علیکم فی کل أخریٰ، أعنی مطلقاً، فقد ورد النص بالإطلاق والتقیید فی السبب، والحکم متّحد، فهذا القسم مما لا یحمل المطلق علیٰ المقید عندنا البتة، علیٰ أنه ربما یسقط بحکم الشرع اعتبار الأرکان، فضلاً عن الشرائط والأسباب، کالإقرار فی الإیمان، وطواف الزیارة فی الحج، والقیام والقراءة والرکوع والسجود للعذر، وقد تقرر فی مقره أن الأسباب والشرائط إنما تعتبر بحسب الإمکان، ولا یسقط الممکن بسقوط ما لیس بممکن، هذا، والله المستعان» راجع ق 71 من مخطوطة “ناظورة الحق”.
أما ما حکاه ابن عابدین من رجوع الحلوانی إلیٰ قول البقالی استدلالاً بمن قطعت یداه أو رجلاه، فقد أجاب عنه المرجانی رحمه الله بقوله :
“وقد انتحل هذه الحکایة من الزاهدی رجال من المتأخرین، وتبجحوا به وشوشوا عقیدة الحق علیٰ أهله…. مع زعمهم أن البقالي الذی تردد بینه هذه الحکایة وبین الحلوانی : زین المشايخ أبو الفضل محمد بن أبی القاسم الخوارزمي، تلمیذ جار الله الزمخشري صاحب الکشاف، وهو متأخر الزمان، توفي سنة ست وثمانین وخمسمائة…فکیف یمکن معاصرته للحلواني ومباحثته إیاه فی هذه المسئلة؟ فإن وفاة الحلوانی کان سنة ثمان أو تسع وأربعین وأربعمائة…فیمکن أن یکون المفتی بالسقوط رجلاً آخر من البقالیین، لا یعرف بحاله، وأیّا ما کان، فالبقالیّ من أهل الاعتزال فی العقیدة، ویلوح من کلام الزاهدي تعصبه لإخوانه من أرباب تلك النحلة”.
“… ثم إنه قاس علیٰ قطع الیدین والرجلین بدون علة مطردة، ولا جامع هو للقیاس من شرائط الصحة، فإن المأمور به بالنص فی مسئلة الوضوء غَسل العضو المخصوص، فعلیٰ تقدیر سقوطه، لا یمکن غَسله ضرورة، ولا یحصل الامتثال بغَسل عضو آخر، والمأمور به فی النص فی مسئلتنا إقامة الصلاة فی المساء وزلفة من اللیل، وهو علیٰ تقدیر عدم تحقق الوقت أصلاً، لا محالة أمر ممکن، وإن ثبت سببیة الوقت وشرطیته للصلاة بقطعی [۳] فإن الطاعة علیٰ قدر الطاقة، فضلاً عما ینتفی (به) العلامة المعرّفة لتحقق المدة المقدرة من الوقت”.
“ولذلك اعترض علیه العلامة المحقق کمال الدین ابن الهمام رحمه الله بقوله : “ولا یرتاب متأمل فی ثبوت الفرق بین عدم محل الفرض، وبین عدم سببه الجعلی الذی جعل علامة للوجوب الخفي الثابت فی نفس الأمر، وجواز تعدد المعرّفات للشیئ، فانتفاء الوقت انتفاء المعرّف، وانتفاء الدلیل علیٰ الشیئ لا یستلزم انتفاءه لجواز دلیل آخر، وقد وجد، وهو ما تواطئت من أخبار الإسراء من فرض الصلاة خمساً بعد ما أمروا أولاً بخمسین، ثم استقر الأمر علیٰ الخمس شرعاً عامّاً لأهل الآفاق، لا تفصیل فیه بین قطر وقطر…وکذا قال علیه الصلاة والسلام : خمس صلوات کتبهن الله علیٰ العباد”.
ثم قال المرجانی رحمه الله فی ق 79: «ثم لا یسلم کون الوقت سبباً، لأن السبب هو تتالی نعم الله تعالیٰ علیٰ عباده، لکن لما کانت الأوقات محلاً لحدوثها أضیف إلیها الصلوات، وأقیمت مقام الأسباب لها فی إدارة الحکم معها تیسیراً للعباد، فإنه لا یعرف أي قدر من النعم یجب فی شکره الفجر وغیره من الصلوات، فإنه أمر خفي غیر منضبط، فأقیم مرور الوقت مقام وجودها فی ترتب وجوب الصلاة علیٰ حصولها، ولئن کان سبباً، فلا نسلم ان الوقت الذی هو سبب غیر موجود، لأن مدة اللیل والیوم فی قطر یغیب فیه الشمس تکون أربعاً وعشرین ساعة، سواء تساویٰ اللیل والنهار، أو تفاوتا فی الطول والاقصار، لا یقال : المعتبر من الوقت سبباً للوجوب لیس هو مطلقه، بل لکل صلاة وقت خاص، فللعشاء وقت خاص ممتاز من وقت المغرب وغیره، فلو جعل وقت العشاء داخلاً قبل غیبة الشفق، لم یکن له وقت خاص لامتداد وقت المغرب إلیٰ غیبة الشفق، لأنا نقول : امتداد وقت المغرب من غروب الشمس إلیٰ حین یغرب فیه الشفق، سواء غاب أم لم یغب، فإذا مضیٰ بعد غروب الشمس مدة یغیب فیها الشفق فی الأیام الاعتدالیة والأقطار الاستوائیة، یخرج وقت المغرب ویدخل وقت العشاء، ویکون لکل واحد منهما وقت ممتاز عن الآخر”.
قال العبد الضعیف عفا الله عنه : إن القول فی فرضیة العشاء فی مثل هذه المناطق راجح علیٰ القول الأول من حیث الدلیل، وإن النصوص القطعیة المتواترة ناطقة بفرضیة خمس صلوات فی الیوم واللیلة، ولا یمکن نسخها أو تخصیصها علیٰ أساس کون علامة الوقت سبباً لفرضیة الصلاة، وما ذکره المحقق ابن الهمام والمرجانی رحمهما الله تعالیٰ فی هذا المبحث قویّ جداً، فینبغی أن یکون التعویل علیه، وهو الذی رجحه ابن عابدین، فقال فی رد المحتار 1 : 365 : “ویتأید القول بالوجوب بأنه قال به إمام مجتهد، وهو الإمام الشافعي، کما نقله فی الحلیة عن المتولی عنه” وکذلك رجحه الطحطاوي فی شرح الدر 1 : 177 فقال : “دلیل التقدیر مشرق”
طریق تقدیر الأوقات فی مثل هذه المناطق :
وإذا تقرر أن تعیین وقت العشاء فی هذه المناطق إنما یقع علیٰ أساس تقدیر الأوقات، فإن هناك طرقاً مختلفة للتقدیر، ذکرها الفقهاء :
1. الطریق الأول أن یقع تقدیر وقت العشاء علی أساس أقرب الأیام المعتدلة فی نفس تلك المنطقة، فمثلاً : تبتدئ الأیام غیر المعتدلة علیٰ عرض 54 (وتقع علیٰ هذا العرض بعض مدن انکلترا) من 11/مایو، وتستمر إلیٰ 31/یولیو، فإن الشفق لا یغیب فی هذه المدة، ویبقیٰ ظاهراً طول اللیل، ولکنه یغیب قبل 11/ مایو، وإن وقت غیاب الشفق فی 10/مایو، (وهو آخر الأیام المعتدلة) هو زهاء الساعة الحادیة العشر وسبع وأربعین دقیقة، والصبح الصادق یومئذ إنما یطلع فی الساعة الحادیة عشر وست وخمسین دقیقة، فإن هذین الوقتین العشاء والصبح الصادق، یعتبران علیٰ القول أساساً للصلاتین فی المدة غیر المعتدلة أیضاً، یعنی یعتبر هذا الوقت وقتاً للصلاتین فیما بین 11/مایو و 31/یولیو التی لا یغیب فیها الشفق طول اللیل.
وحاصل هذا القول أن وقت العشاء فی هذه المنطقة لا یستمر إلا لمدة تسع دقائق، ویستمر هذا الوضع من 10/ مایو إلیٰ 31/ یولیو.
2. الطریق الثانی للتقدیر : أن تقدر أوقات العشاء والفجر فی مثل هذه المناطق علیٰ أساس أقرب البلاد المعتدلة، وهذا القول هو الذی جزم به الشافعیة ومن وافقهم من المالکیة، فمثلاً : أول البلاد غیر المعتدلة فی فصل الصیف ما تقع علیٰ عرض 48.5، فإنها أقرب البلاد المعتدلة إلیهم التی لا یغیب فیها الشفق فی سائر السنة، فیقدر لهم وقت العشاء علیٰ أساس توقیت هذه البلاد المعتدلة القریبة.
3. الطریق الثالث للتقدیر: أن الشفق ما دام مائلا إلیٰ جهة الغروب، فإنه وقت مشترك بین المغرب والعشاء، (ویمکن أن یعتبر نصفه الأول وقتاً للمغرب، ونصفه الثانی للعشاء) وأما إذا انتقل الشفق إلیٰ جهة طلوع الشمس، فهو ابتداء وقت الصبح، وهذا القول ذکره المرجانی فی جملة الأقوال التی سردها فی طرق التقدیر۔ راجع “ناظورة الحق” ق 86
وإن هذا الطرق الثلاثة للتقدیر کلها محتملة، فیجوز الأخذ بما تیسر منها لأهل کل بلد غیر معتدلة، والله سبحانه وتعالیٰ أعلم.
القسم الثانی : البلاد التی توجد فیها أوقات جمیع الصلوات، ولکن بعضه قصیرة جداً :
أما القسم الثانی: فالمراد منه المناطق التی تکمل فیها دورة اللیل والنهار فی مدة أربع عشرین ساعة، وتوجد فیها جمیع أوقات الصلوات، غیر أن بعض هذه الأوقات قصیرة جداً، والفصل بینها وبین الوقت اللاحق قلیل جداً، وذلك مثل المناطق التی تقع علیٰ عرض 54 فی الشمال، فإن مدة غیاب الشفق فی هذه البلاد العاشر من شهر مایو لا تستمر إلا لمدة تسع دقائق.
وحکم الصلاة فی هذه المناطق أن کل صلاة إنما تؤدیٰ فی وقتها المعهود الذی یُعرف بعلامتها المعروفة، مهما قصر ذلك الوقت، فلا تؤدیٰ صلاة العشاء فی المنطقة المذکورة إلا فی خلال تسع دقائق یغیب فیها الشفق، فإن کان ذلك الوقت لا یتّسع للسنن یکتفی فیه بالفرائض أو الواجبات کالوتر، ویستحب أن یصلیٰ النوافل بمقدار السنن المتروکة فی وقت آخر.
ولم أر أحداً من الفقهاء القدامی والمعاصرین من جوّز التقدیر فی مثل هذه المناطق، فینبغی أن لا یعدل عن الأصل مهما أمکن العمل به، ولکن یبدو أن اختصار الوقت فی مثل هذه المناطق یبرّر توسعة دائرة الأعذار إذا لم یتمکن المرأ من أداء الصلاة فی هذا الوقت القلیل، فیصلیها قضاء متیٰ قدر علیٰ ذلك.
أما إذا قصر الوقت جداً بحیث لا یمکن أن یصلی فیه المرأ رکعات مفروضة، ففیه احتمالان : الأول : أن یشرع الصلاة فی ذلك الوقت، ولو وقع إتمامها بعد خروج الوقت، والثانی : أن تلتحق هذه المناطق بالمناطق التی لا یوجد فیها وقت، فیعمل بالتقدیر، والله سبحانه أعلم.
القسم الثالث : البلاد التی لا تکمل فیها دورة اللیل والنهار فی أربع وعشرین ساعة :
أما القسم الثالث : فیشمل البلاد التی لا تکمل فیها دورة اللیل والنهار فی مدة أربع وعشرین ساعة، کما فی عرض تسعین عند القطبین، فإن اللیل یستمر فیها مدة ستة أشهر، وکذلك النهار، فتکمل فیه دورة اللیل والنهار فی مدة سنة کاملة، وإن فی عرض 86 فی الشمال یدوم اللیل من 30/ اکتوبر إلیٰ 9/ فبرایر کل سنة، وإن ضوء النهار یمتد من 10 فبرایر إلیٰ 29 اکتوبر، وفی عرض 76 فی الشمال یدوم اللیل ما بین 3 اکتوبر و 8 مارس، وضوء النهار یمتد من 9 مارس إلیٰ 2 اکتوبر.
وإن قیاس قول من یقول بسقوط العشاء فی القسم الأول أن لا تجب فی هذه المناطق إلا خمس صلوات فی سنة کاملة، ولکن قدمنا أن القول بالتقدیر أصح وأرجح، وهو مؤید بحدیث الباب، وإلیه ذهب الشافعیة، فالصحیح أنه تجب فی هذه المناطق خمس صلوات فی کل أربع وعشرین ساعة، وتقدر أوقاتها علیٰ حساب أقرب البلاد المعتدلة إليها، مع قطع النظر عن وجود علامات الأوقات التی تُعتبر سبباً لوجوب الصلوات فی البلاد المعتدلة، ویستمر هذا الوضع إلیٰ أن تکمل دورة النهار فی مدة أربع وعشرین ساعة، فینطبق حینئذ أحکام القسم الأول أو الثانی.
حکم الصوم فی بلاد غیر معتدلة :
أما الصوم، فقد ذکر الطحطاوي فی شرح الدر المختار 1 : 177 عن الأئمة الشافعیة أنهم یقولون بتقدير الأوقات فی الصوم أیضاً.
وذکر شیخ مشايخنا العلامة أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالیٰ فی بوادر النوادر 1 : 239 أن المناطق التی لا يوجد فیها اللیل، یصوم أهلها فی رمضان بتقدیر الأوقات بالنسبة إلیٰ أقرب البلاد المعتدلة، ولکن یقع إفطارهم فی وقت نهارهم، فالأحوط أن یقضوا تلك الصیام فی أزمنة أو أمکنة معتدلة، ولکن ذلك احتیاط، ولو لم یقضوا تکفیهم الصیام التی صاموها بتقدیر الأوقات.
أما المناطق التی یوجد فیها اللیل خلال أربع وعشرین ساعة، ولو لوقت قلیل جداً، فإن كان طُول النهار بقدر تحملهم للصوم: صاموا وأفطروا حسب ليلهم ونهارهم، وإن کان طول النهار فوق تحملهم للصوم (مثل أن لا یجدوا من اللیل وقتاً کافیاً للأکل والشرب، أو لا یکفیهم الأکل مرة واحدة فقط فی مدة أربع وعشرین ساعة) جاز لهم تقدیر الأوقات أیضاً، وراجع أیضا رد المحتار 1 : 365 و 366.


[۱]قال الحموی فی معجم البلدان 2 : 486 :«وکان ملك بلغار وأهلها قد أسلموا فی أیام المقتدر بالله، وأرسلوا إلیٰ بغداد رسولاً یعرّفون المقتدر ذلك ویسئلونه إنفاذ من یعلمهم الصلوات والشرائع، لکن لم أقف علیٰ السبب فی إسلامهم» قلت: قد ذکر أبو حامد الأندلسیّ سبب إسلامهم فقال : «إن رجلاً صالحاً دخل بُلغار، وکان ملِکها وزوجته مریضین يائسین من الحیاة، فقال لهما: إن عالجتکما تدخلان فی دینی؟ قالا : نعم، فعالجهما فدخلا فی دین الإسلام، وأسلم أهل تلك البلاد معهما، فسمع بذلك ملِك الخزر، فغزاهم بجنود عظیمة، فقال ذلك الرجل الصالح : لا تخافوا واحملوا علیهم وقولوا: الله أکبر الله أکبر، ففعلوا ذلك وهزموا ملِك الخزر، ثم بعد ذلك صالحهم ملِك الخزر وقال : إنی رأیت فی عسکرکم رجالاً کباراً علیٰ خیل شهب یقتلون أصحابی، فقال الرجل الصالح : أولئك جنود الله، وکان اسم ذلك الرجل بلار، فعرّبوه فقالوا : بلغار، هکذا ذکر القاضی البلغاری فی تاریخ بلغار، وکان من أصحاب إمام الحرمین» حکاه القزوینی فی آثار البلاد وأخبار العباد ص : 612 و 613 ، وقال القلقشندی فی صبح الأعشیٰ 4 : 462 : «وأهلها مسلمون حنفیة، ولیس بها شیئ من الفواکه ولا أشجار الفواکه بشدة بردها…قال السلطان عماد الدین صاحب حماة : وقد حکیٰ لی بعض أهلها أن فی أول الصیف لا یغیب الشفق عنها ویکون لیلها فی غایة القصر …لأن من عرض ثمانیة وأربعین ونصف یبتدئ عدم غیبوبة الشفق فی أول فصل الصیف».

[۲]هو فقیه حنفی من أهل قازان، له حاشیة علیٰ التوضیح شرح التنقیح فی أصول الفقه لصدر الشریعة باسم خزانة الحواشی لإزالة الغواشی، وله مؤلفات أخریٰ ذکرها عمر رضا کحاله فی معجم المؤلفین 13 : 128 ولد سنة 1233 هـ وتوفّي فى سنة 1306 هـ کما ذکره الزرکلی فی الأعلام 9 : 39، وکتاب “ناظورة الحق” ذکره کل واحد منهما، وذکره موجود فی معجم المطبوعات العربیة 1728.

[۳]قال العبد الضعیف عفا لله عنه : بل الدلیل ینقلب علیهم، لأن غسل الیدین والرجلین کان شرطاً لصحة الصلاة، ولکن لما انعدم العضوان، انعدم الشرط، ولکن لم یسقط أداء الصلاة بفوات هذا الشرط، بل سقط اعتبار کونه شرطاً، لعدم إمکان وجوده، فکذلك غیبوبة الشفق کان سبباً لوجوب العشاء، فلما انعدم هذا السبب بالکلیة، لم نقل بسقوط الصلاة، وإنما سقط اعتبار کونه سبباً، فوجبت الصلاة فی المسئلتین، وسقط اعتبار الشرطیة والسببیة، فافهم. والله اعلم.