التّجديد فى الشّريعة الإسلاميّة

بسم الله الرحمن الرحيم
“التّجدید” فی نفسه عاطفة محمودةورغبة بشریّة طبیعیّة،ولوانعدمت هذه الرّغبة لما أمكن الإنسان أن یصل من عهد الحجر إلى عهد الذرّة، ومن الرّكوب علیٰ الإبل والخیل إلى الطّیران فی الفضاء،ومن الاستضاء بالشموع والأسرجة إلیٰ المصابیح الكهربائیّة، إنّ ما أحرزه الإنسان من الإنجازات المادّیّة والعلمیّة الّتی سخّرت القمرَ والكواكبَ فی جانبٍ ووصلت إلىٰ أعماق البحار فی جانبٍ آخَرَ لیس ذلك إلا رهنَ رغبته الطبیعیّة وهی”التجدید”.
فالإسلام الّذی هو دین طبیعيّ لم یفرض القیود علیٰ “التجدید” لمجرّد أنّه”تجدید” بل ربما استحسنه وشجّع علیه.
لا سیّما وقد ثبت عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم استخدامُ الأسالیبِ الحدیثةِ فی الصّناعات والفنون الحربیّة، فإنه حینما تكتّلت القبائلُ ضدَّ النّبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبینت أن تشن الهجمة علیٰ المدینة، قدّم سلمان الفارسيّ رضی اﷲ عنه خطةً جدیدةً لم یكن للعرب عهدٌ بها من قبل، وهي أن یحفر خندقٌ حول المدینة، فأُعجِب النّبيُّ صلى الله عليه وسلّم بهذه الخطّة وساهم بنفسه فی حفر الخندق. [۱]
وقد استخدم النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فی غزوة الطّائف بإشارة من سلمان الفارسيّ نفسه سِلاحَینِ حربِیَّینِ جدیدَین، أعدّهما بیده، وهماالمنجنیق والدّبّابة. [۲]
وقد ذكرالحافظ ابن كثیر رحمه اﷲ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم بعث عروة ابن مسعود وغیلان بن سلمة إلىٰ جرش، وهی مدینة فی الشام، لیتعلّما فیها صناعةَ الدّبّابة و المنجنیق والضبورة ،وكانت جرش مدینة صناعیّة معروفة، والضبورة سلاحٌ حربيّ علیٰ طراز الدبابة كانت الروم یستخدمونها فی الحروب. [۳]
ویذكر الحافظ ابنُ جریر أن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم أمر أهل المدینة بأن یُكثِرُوا من إنتاجاتهم الزّراعیّة، وأشار علیهم أن یستخدموا جماجم الإبل. [۴]
ورُوِي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أشارَ علی النّاس بتجارة الثّیاب لأنّ تاجر الثّیاب یُحِبّ أن یكون النّاس فی رفاهیةٍ ونعمةٍ.[۵] ثمّ إنّه حمل بعض النّاس علی الرّحلة إلىٰ مصر وعمان والتجارة بهما[۶] وقال صلى الله عليه وسلّم”اطلُبوا الرّزق فی خبایا الأرض” [۷] كی یستفید النّاس من الزّراعة والرّكائز.
كان العرب یجهلون الأساطیل البحریّة،ولكنّ النّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بشر بأنّ رجالاً من أمّتی یسافرون علی أمواج البحر للجهاد فی سبیل اﷲ كأنّهم جالسون علی العروش [۸] ثمّ ذكر فضائل الأسطول البحريّ الأوّل للمسلمین، وقام معاویة رض فی خلافة عثمان (رضی اﷲ عنهما) بإعداد أوّل أسطولٍ بحريّ حتّی تجاوزت هجماتُ المسلمین قبرص ورودس وكریت وصقلیة وسخّرت لهم بحیرة الرّوم كلّها.
واستخدم عمروبن العاص رضی اﷲ عنه لأول مرّة طریقة التعتیم فی حرب ذات السّلاسل عند لحم و جزام سنة ۸ هـ، وأمر جیوشه بإطفاء الأنوار كلّها فی المعسكر إلی ثلاثةأیّام، فلمارجع إلى المدینة سأله النّبيّ صلى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال عمروبن العاص رضی اﷲ عنه:یارسول اﷲ:كان عددُنا أقلَّ بالنّسبة إلی العدوّ، فأمرت بإطفاء الأنوار خشیة أن یتشجّع علینا، فأُعجِب النّبيُّ صلى الله عليه وسلّم بهذه الخُطّة الحربیّة وحمد اﷲ علی ذلك. [۹]
هذه عدّة أمثلةٍ سردتُها علی عجل للإشارة إلى أنّ الإسلام لم یمنع من إجراء خطوة جدیدة لمجرّد أنّهاجدیدة، بل شجّع علی التّجدید إذا كان لأهدافٍ صالحةٍ وفی حدودٍ مشروعةٍ.
ولكن كماأنّ “التجدید” وصل بالإنسان إلى الذّروة العلیا من الرّقی المادّيّ ومنحه اختراعات حدیثةً ووفر له أسباباً ووسائلَ راقیة للدّعة والرّفاهیة، كذلك ورط الإنسان فی أدواء نفسیّةٍ كثیرةٍ وألحق به أضراراً بالغةً، ومن أجل هذا التّجدید نری التّاریخ الإنسانيّ حافلاً بالفراعنة والشدّادین، ممّن لم یقفوا علی حدٍّ من حدود القوّة والسّلطة، وتجاوزوا إلی حدٍّ ادّعَوا فیه الألوهیّة، وهذا التّجدید هو الّذی أنتج الطّواغیت فی الغرب مثل ’هتلر‘و’مسولینی‘وهوالّذی أحدث زوبعة الخلاعة والاستهتار فی العالَم كلّه، ومنح الزِّنا وثیقة الشرعية، إذا كان الطرفان راضیین، بل وقد نال الاتّفاق علی شرعیة اللّواط من مجلس الشّعب البریطانی، وهذا هو التجدید الذی تقوم به النّساء الغربیّات فی ظله بمطالبة شرعیة الإجهاض، وهذا هو التّجدید الّذی یحتجّون به فی شأن توفیر الشّرعیّة للزواج مع المحرمات.
عرف من ذلك أنّ التّجدید سیف ذو حدّین، ینفع الإنسان ویَقضِی علیه، فلایصحّ أن یُقبل شيءٌ جدید علیٰ أساس جدّته، أو یُرفض لأجل جدّته، ولكن هنا یَنشَأ السُّؤالُ فی كل ذهن عن المقیاس الّذی یُحكَم به علیٰ مشروعیّة “الجدید” أو تحریمه.
ویمكن تحدید هذا المقیاس بتحكیم العقل المجرّد، فقد ترجع إلیه المجتمعات العلمانیّة فی كلّ شأن من شؤنها، ولكنّ الّذین سَلَبُوا الإنسانیّة قِیَمَها ومُثُلَها باسم التّجدیدكان كلُّهم یزعم نصیب العقل والتّفكیر لنفسه، فالحقّ أنّه إذاتحرّر العقلُ من الوحي الالهي تصبح العناصر المتعارضة تتجاذبه وتتبناه فی آن واحد، وقد رأینا بأعیننا أنّ العقل یوفر تأویلاتٍ جمیلةً لكلّ نظریة مهما بلغت فی الإساءة إلی البشریة، فعلی سبیل المثال: نریٰ أنّ البشریة الیوم كذلك یتفصد جبینها عرقا إذا وقع علی آذنها اسم “هیروشیما” و”ناگاساكی” ولكن دائرة المعارف البریطانیّة تقول فی تعریف القنبلة الذّرّیة قبل أن تذكر التّدمیرات الّتی لحقت بهیروشیما وناگاساكی نتیجة لقذف القنبلة الذریة علیهما:
[۱۰]“لقد قدر رئیس الوزراء السابق ونسنان ترششل أن القنبلة الذریة قصرت الحرب وحفظت أرواح ملیون جنديٍّ أمریكيّ وربع ملیون جنديٍّ بریطانيّ”.
لاشكّ أنّ مثل هذاالمنطق یستطیع أن یقدِّم المبرِّرات لكلِّ نوعٍ من الظّلم والاضطهاد والعُدوان.
ویمكنُنا أن نقدِّم أمثلِةً كثیرةً لهذه التّأویلات العقلیّة، وأقدّم هنا مثالاً مع الاعتذار إلى الحیاء والعقل، یقول قائدُ الباطنیّة الشّهیر عبداﷲ القیروانيّ:
“وما العَجَبُ من شيءٍ كالعجب من رجلٍ یدّعِی العقلَ، ثمّ یكون له أختٌ أو بنتٌ حسناءُ ولیست له زوجةٌ فی حُسنها فیحرّمها علی نفسه ویُنكِحها من أجنبيّ، ولو عقل الجاهل لعلم أنّه أحقُّ بأخته وبنته من الأجنبيّ، وما وجه ذلك إلّا أنّ صاحبَهم حرّم علیهم الطّیباتِ[۱۱]
مهما أعربتُم عن كراهیتكم ومقتكم تجاه هذه العبارة، ولكن انظروا هل یستطیع العقلُ الّذی قد تحرّر عن هدایة الوحي الإلهيّ أن یردّ علی ذلك رداًّ عقلیّاً خالصاً، وقد تحقّقت الآن بعد قرونٍ رؤیا عبید اﷲ القیروانيّ، وأصبحت بعض الدُّوَلُ الغربِیّةُ تطالب بالزّواج مع الأخوات.
فبتحكیم العقل فی شأن التّجدید لا تبقی قِیمةٌ من قِیَمِ الحیاة سالمةً ویتورّط الإنسان فی متاهاتِ الآراء والنّظریّات المتعارضة، لأنّ العقل الّذی یتحرّر من هدایة الوحيِ الإلهيّ یحسبه الإنسان عقلاً حرّاً، ولكنّه عقلُه الّذی اسْتَعْبَدَتْهُ الشّهواتُ البهیمیّةُ والأهواء النفسیّةُ، وهذا من أشنع أنواع العبودیّة العقلیّة والفكریّة، یقول اﷲ عزوجل:
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 71]
وقد قدّمت جماعةٌ من فلاسفة القانون نظریّةً تعرف بنظریةNon-cognitivist Theory ، یقول الدكتور فروید المتخصّص الشّهیر فی القانون فی كتابه Legal Theory فی تلخیصه لهذه النّظریة:
“لیس العقلُ إلّا عبداً للأهواء والعواطف البشریّة، ولیس له إلّا أن یكون عبداً لها، وهل هناك وظیفةٌ للعقل إلّا أن ینقاد لهذه العواطف ویخضع لها[۱۲].”
ویشیر الدّكتور فروید إلى النّتیجة الّتی تؤدِّی إلیها هذه النّظریّةُ بقوله:
“وإن الألفاظ مثل “الخير” و “الشر” و “ينبغى” أو “لاينبغى” كلّها وليدة العواطف البشريّة، ولايوجد هناك شيء يقال له بحقّ إنّه علم الأخلاق.”
مهماكانت هذه النّظریّةُ خاطئةً لبناء فلسفةِ القانون علیها، ولكنّها تفسیرٌ صادقٌ وواقعيٌّ لعقلیّة علمانیّة، الواقع أنّ النّتیجةَ الحتمیّةَ لاتّباع العقل العلمانيّ أن لایبقی فی العالم مایسمّی بالأخلاق، ولاتسیطر علی سلوك الإنسان إلّا العواطفُ النّفسیّةُ، لایمكن الجمع بین العقلیّة العلمانیّة والأخلاق، فإنّ الإنسان یواجه فی تیار “التّجدید” مرحلةً یكره فیها الضّمیر الإنسانيّ أمراً، ولكنّه یُضطَرُّ إلی اقترافه، لأنّ التّجدیدَ والعقلیّةَ العلمانیّةَ لا یوفران له الدّلیل علی رفضه، إنّ المفكّرین الغربیّین یواجهون الآن مرحلةَ هذا العجز المخزِی، إنّ عدداً كبیراً من المفكّرین فی بریطانیا لایستسيغ مشروع “اللواط” الّذی وافق علیه البرلمانُ البریطانيّ، لكنّهم اضطُرّوا إلى شرعیّته، لأنّه لابدّ فی دین التّجدید العقليّ الخالص من توفیر المبرّرات الشّرعیّة للسّیّئات الّتی تسود فی المجتمع، تقول لجنة “وولفیدن” الّتی عُقِدَت للنّظر فی هذه القضیّة:
“وقبل أن يقوم المجتمع الّذى يسوده القانون بمحاولات جديّة لكي يثير فى النّاس خوفا من الجرائم، مخافتهم من الذّنوب والآثام، لا بدّ أن تستمرّ سيادة الأخلاق الذّاتية، وذلك بتعبير أصح خارج من نطاق القانون[۱۳].”
“الواقع أنّه بعد تحكیم العقل الخالص فی الشّؤون كلِّها، لایبقی لدی الإنسانِ مِقْیاسٌ یمنع علی أساسه تقلیداً جدیداً أوعادةً جدیدةً، بل وتنجرف كلُّ قیمةٍ من قِیَمِ الحیاة مع تیار التّجدید.
إنّ الّذی یبعث المفكّرین الیوم علی القَلَقِ والاضطراب هو البحث عن طریقٍ یضمن تأمین القِیَمِ الإنسانیة والمثل العلیا فی تیار “التجدید”، یقول أحد القضاة الأمریكیّین، القاضی كاردوزوCarduzo:
“”إنّ من أهمّ ما يحتاج إليه القانونُ اليوم، هو أن تكون عندنا فلسفة مدوّنة للقانون، نستطيع أن نوافق بمساعدتها بين المقتضيات المتصادمة من التصلّب والتّغيير.” (The Growth of the Law)
لكن الحقّ أنّ فلسفةً عقلیّةً مهما كانت، لاتقدر علی تحقیق هذه العملیّة الضّخمة، ولم ینشأ هذا الفساد إلا من أجل التحرّر من الوحي الالٰهيّ وإلقاء مسؤلیّاته علی العقل الّذی یعجِز عن احتمالها، والظّاهر أنّ دعوی الثّبات فی شأن قانونٍ إنّما تحتاج إلى الدّلیل، والعقل الإنسانيّ یعجِز عن تقدیم أيّ دلیلٍ علی ذلك، لوحكم بعضُ النّاس الیوم علی قانونٍ بثباته علی أساس عقولِهم، لَیَقُومَنَّ غداً مَن ینادِی بتغیّره وعدم صلاحیته للثّبات، فلاطریق إلى معالَجة هذه القضیّة إلّا أن یتحرّر العقل الإنسانيّ من رِقِّ الشّهوات، والأهواء النّفسیّة ویخضع لمن خَلَقَهُ وخَلَقَ الكونَ كلَّه، هو الّذی یَحِقُّ له أن یحكم بثبات قانونٍ وتغیّره، فإنّه الحكیم الخبیر بما یحدث فی العالم، ولقد صدق مؤلِّفُ مبادیء القانون الشهیر جورج بیتن حیثما قال:
“ما هي الأقدارُ الّتى يجب أن يحتفظ بها نظامُ قانونٍ مثالىٍّ؟ هذا سؤالٌ يتعلق بالقِيَم، ويلعب فيه فلسفةُ القانون دورَه، وهو سؤالٌ يتعلّق فى الأصل بالقانون الفطريّ، مهما استعملوا له اصطلاحاً آخرَ، ولكن كلّما اجتهدنا أن تساعدنا الفلسفةُ فى حلّه، ازداد الأمر صعوبةً، فإنّ الفسلفة لم تصل أبداً إلى قيمةٍ من القِيَم اتّفق عليها الفلاسفةُ. والحقيقة أنّ الدّين هو الشّيء الوحيد الّذى نستطيع أن نتّخذه أساساً لجواب هذا السّؤال، ولكن يجب أن نخضع للحقائق الدّينية بقوّة العقيدة، لا باستدلالات منطقيّة[۱۴]
فالحاصل أنّ العقل العلمانيّ قد باء بالفشل الذّریع فی شأن الحكم علی التّجدید بحسنه وقبحه، فلا سبیل إلى حلّ هذه القضیّة إلّا أن یسترشد الإنسان من اﷲ عزّ وجلّ وشریعته، یقول اﷲ عزوجل فی كتابه العزیز:
﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: 14]
فلا ینبغی لنا أن نختبر التّقالیدَ الجدیدةَ فی الحیاة علی أساس بهرجتها بل علیٰ أساس مطابقتها لسبیل اﷲ وصراطه، فإذا وقفنا علیٰ حكمٍ من أحكام اﷲ وجب علینا أن ننقاد له، یقول اﷲ عزوجل:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]
ویقول عزّ وجلّ:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
[النساء: 65]
إن اﷲ علیمٌ خبیرٌ بالماضی والمستقبل علی السّواء، فلا بُدّ أن تكون لأوامره سیادةٌ فی حیاتنا، یقول تعالیٰ:
﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
[النساء: 176]
ومن هنالك یتبیّن فی شأن التّجدید أمرٌ آخرُ، وهو أنّ الإنسانَ یحتاج إلى الوحي الالٰهيّ لمجرّد أنّ العقل المحض لایهدیه فی شؤونه، فلا بدَّ له أن یتّبع شریعة اﷲ كما هي، فلا یصحّ أن یقوم أحدٌ إلى عادةٍ من عاداتِ الزّمان فیوفر الدّلائلَ لشرعیّتها بعقله، ثم یعوج علی القرآن والسّنة ویؤوّل نصوصها حسب ما یحكم به عقلُه، فلیس ذلك اتّباعاً لأوامر اﷲ وشریعته، بل هو إحداث التّغییر والتّعدیل فیها، ولایجوز ذلك لأحدٍ من البشر، والاتّباع أن ینقاد الإنسانُ لأوامر اﷲ من قرارة نفسه لاتزعزعه عن ذلك أيُّ قُوّةٍ من قُوَی العالَم، یقول عزّ وجلّ:
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.﴾
[الأنعام: 115 – 117]
ویقول:
﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ [يونس: 15]
ویُواجِه الإنسانُ فی هذا الاتّباع معارضةَ عصره، وصعوباتٍ كثیرةً، ولكن الّذین یجاهدون فی ذلك یُكرمهم اﷲ بالفوز فی الدّنیا والآخرة.
یقول اﷲ تعالیٰ:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]
ولیس بصحیح أن یتبع الإنسانُ شریعةَ اﷲ إذا تحقّقت فیها مصلحةٌ من مصالحه، وإذا واجه الصّعوبات [و] المشاكل انتهج طریق الإعراض والتّأویل، وقد قرّر القرآنُ الكریم خسارة الدُّنیا والآخرة، یقول:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الحج: 11]
فطریق معرفة الحُسن من القُبح هو الرّجوع إلى شریعة اﷲ، فإذا كان أمراً موافقاً لشرع اﷲ، قَبِلَهُ، وإن كان مخالِفاً له، تَرَكَهُ، ولم یؤوّل فیه، مهما كان معارِضاً لعادات الزّمان، ومهما استهزأ به النّاسُ، یقول اﷲ عزّ وجلّ:
﴿الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
[البقرة: 15]
ولایختار هذا المنهجَ إلّا فی الأمور الّتی عبّر عنها الشّرعُ بالفرض والواجب والسّنّة والاستحباب والحرام والمكروه، فهذه أحكامٌ ثابتةٌ لاتقبل أيَّ تغییرٍ ولا تبدیلٍ فی أيّ عصر من العصور، وأمّا المباحاتُ فهي موكولةٌ إلی مصالح الإنسان، إذا شاء اختارها، وإذا شاء تَرَكَهَا، والحقّ أنّ عددَ المسائل المنصوص علی فرضیّتها ووجوبها وسنّیّتها واستحبابها وحرمتها وكراهیتها قلیلٌ جدّاً، فقد تدخل معظم شؤون الحیاة فی المباحات.
وقد منح الإسلام للتّجدید مجالاً واسعا، یمكن فیه للعقل الإنسانيّ ما أراد من اكتشاف واختراع فی مجال العلوم والفنون.
فمن أهمّ قضایا العالَم الاسلاميِّ الآن أن یعرف حدودَ هذا التّجدید وأبعادَه، فلاینبغی أن یترك هذا المجال الواسع للتّجدید إلی المجال التّشریعيّ الّذی قد قرّرت الشریعةُ فیه أحكامها، ولكن من الأسف الشّدید نریٰ أنّ العالَمَ الإسلاميّ قد قلّ اهتمامُه بالتّجدید فی المجال الواسع الّذی هیّأ له الإسلام، ووجّه عنایتَه إلى المجال التّشریعيّ الّذی حرّم فیه اﷲُ التّجدیدَ، وإن هذا المنطقَ المعكوسَ أدَّیٰ بنا إلی حِرمانٍ وتخلّفٍ فی المجالات العصریّة، الحضاریّة منها والعلمیّة، وأخیراً نسأل اﷲ التّوفیق،
وآخر دعوانا أن الحمد ﷲ رب العالمین، وصلی اﷲ علیٰ خیر خلقه محمد وآله وصحبه وسلم