بسم الله الرحمن الرحيم
مولانا الشيخ محمد شفيع
(مفتى ديار باكستان)

كان يُعتبر مولانا العلّامةُ الشّيخُ المفتى محمّد شفيع- رحمه الله تعالى – من كبار علماء الهند وباكستان الّذين حملوا فى هذه الدّيار لواءَ الدّين الحنيف٬ وبذلُوا لإعلاء كلمته حياتَهم و قوّتهم وأنارُوا فى ديوبند – الهند – مصابِيحَ التّجديد باهرةَ الشّعلة ساطعةَ النّور٬ حتى لا تزال قافلة الإسلام تتقدّم ٬ مبددة دياجير الكفر والإلحاد٬ وباعثةً للأمل الحيّ فى نفوسٍ أماتها اليأس والقنوط.
وُلد الشّيخ – رحمه الله تعالىٰ – لأحد وعشرين من شعبان المعظم سنة١٣١٤من الهجرة٬ وترعرع فى حجر العلم و العرفان٬ إذ عكف على تلقّى العلم من العلماء الكبار منذ نعومة أظفاره٬ والتزم صحبة العارفين مذ بداءة عمره.
قد دخل دارالعلوم فى (ديوبند) بعد ما قرأ القرآن الكريم٬ فى سنة ١٣٢٥هـ وهي أكبر جامعة دينيّةٍ قامت بنشر المعارف الإسلاميّة القيّمة فى الهند٬ وجدّدت فيها أنوارها الّتى كادت تنطفئ بسبب الاستعمار الغربيّ٬ وقد تقبّل الله تعالىٰ جهودَ مؤسّسها إذ ظهر منها رجالُ العلم والدّين٬ وتنورت بهم شموع الهداية فى حنادس الكفر والضلال. [الّذين جمعوا بين علمٍ وعملٍ٬ وورعٍ وإخلاصٍ وتفانٍ وتضحيةٍ٬ حتّى ملأوا هذه الدّيار نوراً وعلماً].[۱]
وقد دخل الشّيخ دار العلوم هذه وهو فى ميعة صباه، ولم يزل مدّة عشرِ سنواتٍ مشتغلاً بدراسته، مكبّاً على تلقِّى العلوم من العلماء الأفاضل العبقريّين الّذين سار بصيتهم الرّكبانُ فى أنحاء الهند وجوانبها.
ومن أشهر أساتذته:
١-الإمامُ الحافظُ المحدّثُ العلّامة المحقّق مولانا الشّيخ أنور شاه الكشميريّ، وكان بحراً زاخراً للمعارف والعلوم٬ نابغة فى كلّ فنٍّ ٬ آية من آيات الله فى الحفظ والإتقان٬ وقلّما يوجد فى هذا القرن مثلُه فى الِخبرة الواسعة والنّظر العميق. و قد طُبعت أماليه على صحيح البخاريّ باسم فيض البارى، وله مؤلَّفاتٌ قيّمة أخرى حول شتّى المواضيع – رحمه الله تعالى رحمةً واسعة- قرأ عليه الشّيخ جامِعَي البخاريّ والترمذيّ والشّمائل وكتاب العلل له٬ وكتاب الفلسفة الجديدة٬ وشرح النّفيسيّ فى الطبّ٬ وهو من تلامذته الممتازين٬ وكان حضرة الإمام يحبّه ويعطف عليه كثيرا، حتى جعله من أصحابه الأصفياء، الّذين ساعدوه فى مهمّة الردّ على “القاديانيّة”٬ وبأمره ألّف الشّيخ -رحمه الله- كتاب “ختم النّبوة” باللّغة الأرديّة، و”التّصريح بما تواتر فى نزول المسيح” و “هدية المهدين فى آيات خاتم النبيّين” باللّغة العربيّة.
٢-الإمام الفقيه مولانا الشيخ المفتى عزيز الرّحمن٬ وكان – قدس سرّه – من أعلام العلماء والفقهاء٬ تلمّذ على الشّيخ الكنكوهيّ -قدس الله سرّه- وجماعةٍ من علماءِ السّلف٬ وكان رئيسَ هيئة الإفتاء بدارالعلوم٬ وشيخاً قدوةً على طريق النّقشبنديّة٬ من خُلفاء العارف بالله الشّيخ رفيع الدّين٬ وقد طبعت مجموعةُ فتاواه باسم “عزيز الفتاوى” باللّغة الأرديّة، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
قرأ عليه الشّيخ موطأ الإمام مالك برواية يحيىٰ بن يحيىٰ وبرواية الإمام محمد ابن حسن [الحسن] الشيبانيّ، وشرح معانى الآثار للإمام أبى جعفر الطحاويّ، رحمهم الله تعالى، وتفسير الجلالين للسّيوطيّ والمحلّيّ، ومشكوة المصابيح للتبريزيّ، وشرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر- رحمهم الله تعالى.
٣.الإمامُ الزّاهد العلّام مولانا الشّيخ السّيد أصغر حسين الهاشميّ الحسنيّ، وكان -رحمه الله تعالى- من أعيان علماء عصره، فيه أنموذج صالح للأخلاق الإسلاميّة الكريمة من التّواضُع والسذاجة وخشية الله. وله مؤلَّفاتٌ وجيزةٌ نافعةٌ قد طبع أكثرها باللّغة الأرديّة، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
تلقّى منه شيخُنا المفتى- قدس الله سره – السّنن لأبى داود السجستانيّ، والسّنن الكبرى للنسائيّ، وشقصاً من أواخر جامع الترمذيّ، رحمه الله تعالى.
٤-الإمام الدّاعية الكبير، شيخ الإسلام مولانا شبير أحمد العثمانيّ، صاحب الشّرح الجليل على صحيح مسلم وكان – رحمه الله تعالى – من نوابغ العلماء فى العصر الأخير، له خبرة تامّة بسائر المعارف والعلوم، وكان من الزّعماء الممتازين فى جهود بناء باكستان، و لن ينسى الشّعبُ الباكستانيّ تضحياتِه الغاليةَ فى هذا السّبيل، هاجر إلى باكستان بعد استقلالها ولم يزل يجتهد لأجل إقامة الدّين فيها حتّى انتقل إلى رحمةالله، قَدّس الله تعالى سرَّه وشكر سعيَه. وله مؤلَّفات قيّمة معروفة حول شتّى المواضيع الدينيّة، من أشهرها “فتح الملهم بشرح صحيح مسلم” وهو شرح حافل جليل، تلقّاه الأمّة الإسلاميّة بالقبول فى سائر البلاد.
تلقّى منه شيخنا المفتى- رحمه الله تعالى- الصّحيح للإمام مسلم وشطراً من كتاب الهداية، ثم رافقه فى حركة بناء باكستان، وجاهد معه جنباً بجنبٍ،كما سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.
٥.الإمام الفاضل العلّام، شيخ الأدب والفقه مولانا إعزاز على- قدّ س الله تعالى سرّه-، وكان- رحمه الله تعالى – بارعاً فى سائر العلوم، لا سيّما العلوم الأدبيّة، وله تعليقات قيّمة معروفة على كثير من الكتب الدراسيّة.
قرأ عليه الشيخ سائر الكتب الأدبيّة، وشرح هداية الحكمة للميبذي، وشرح العقائد النسفيّة للتفتازانيّ، وشرح الوقاية لصدر الشّريعة، وبعض الرّسائل الأخرى.
٦.الإمام الفيلسوف مولانا الشّيخ محمد إبراهيم البلياويّ، رحمه الله تعالى وهو شيخ بارع فى العلوم الرّائجة قاطبة، ولاسيّما فى العلوم العقلية من الفلسفة والمنطق والكلام، وهو من البقايا الصالحة من طائفة أساتذة الشيخ، رحمهما الله تعالى. قرأ عليه الشّيخ كتاب “الصدرا” و”الشمس البازغة”.
وللشّيخ أساتذةٌ غيرُهم، تركنا ترجمتهم مخافة الإطناب. وحقاً إنّهم كانوا ذكرياتٍ جميلةً لأسلافنا الصّالحين فى علمهم الغزير وعملهم الصّالح القويم.
ولما كان حضرة الشيخ – رحمه الله تعالى – تبدو عليه – منذ اللحظة الأولى – مخايل النبوغ و أمائر [۲] الذكاء، صار أساتذتُه يبذلون فى تعليمه جهوداً مختصّةً مع كل عطفٍ وحنان، ولإخلاص نيّتهم يد لا تُجحد فى تكوين ذوقه الفنّيّ وتنشيط مواهبه الصّالحة.
وفرغ عن دراسته فى سنة ١٣٣٥ه، ولما كان من الطلاب المتفوّقين مدّة دراسته، اختاره أساتذةُ دارالعلوم ليكون مدرّساً بها، فشرع فى التّدريس فى سنة ١3٣٦هـ وسرعان ما اشتهر تدريسُه فيما بين الطّلبة فى سائر البلاد الهنديّة، ولم يزل يدرّس الحديثَ والتّفسيرَ والفقهَ وغيرَها من العلوم الدينيّة الرّائجة مدةَ ست وعشرين سنةً. و تلمذ عليه فى هذه المدّة خلقٌ كثيرٌ من الطّلبة، استفادوا من علومه وعرفانه، ونهلوا من معينه العذب النّمير، فما من مدينة من مدن الهند وباكستان إلا وله فيها تلامذةٌ، وأكثرهم مشتغل [۳] بالتّدريس والخطابة وإفادة العلوم، ويُعتبر [٤] من العلماء البارزين فى هذه الدّيار.
استرشاده بمشايخ الطّريقة
كان حضرة الشيخ – منذ ميعة صباه – فى اشتياقٍ شديدٍ نحو الاستفادة بصحبة أساتذته ومشايخه الكرام، فكان كثيراً ما يحضر مجالس الإمام الدّاعية المجاهد الكبير شيخ الهند مولانا محمودالحسن – قدّس الله تعالى سرّه – و يستفيد من بحار عرفانه. ثمّ لما اعتُقل شيخ الهند رحمه الله تعالى بجزيرة “مالته” راجع شيخ مشايخ الوقت، حكيم الامّة مولانا التهانويّ – قُدِّس سرُّه – وبعد ما رجع شيخ الهند إلى “ديوبند” بايع على يده بيعة السلوك فى سنة ١٣٣٩ من الهجرة، ولم يزل يلازم صحبته حتى توفّاه الله تعالى.
ثم بعد وفاته – رحمه الله – راجع حكيم الأمّة الموصوف مرّةً ثانيةً، وجدّد البيعة على يده فى سنة ١٣٤٦ من الهجرة، ثم لازم صحبته مدّةَ ستٍ وعشرين سنةً، وكان حكيم الأمّة يحبّه ويعتبره من أصحابه الأصفياء، ويشاوره فى كلّ مهمّةٍ دينيّةٍ. وساعده حضرةُ الشّيخ فى تأليف كثيرٍ من الكتب مثل”الحيلة الناجزة للحليلة العاجزة” و هو كتابٌ قيّمٌ يحتوِى على أحكامِ زوجة المجنون والمتعنّت والمفقود والعنّين، وكان مذهبُ الحنفيّة فيها ضيّقاً، فراجعوا علماءَ المالكيّةِ وكُتُبَهم وأفتَوا بمذهبهم، ثمّ أجمع علماءُ الحنفيّة عليه، وهو المختار للفتوىٰ عند أصحابنا الحنفيّة اليوم . وبأمر حكيم الأمّة الموصوف ألّف الشيخ كتباً كثيرةً من أهمّها “أحكام القران” بلغة عربية، وهو ذخر ثمين للإسلام والمسلمين فى عدّة مجلدات، و بالجملة فلازم الشّيخُ صحبةَ حكيم الأمّة – رحمه الله تعالى – إلى سنة ١٣٦٢ه. وفى سنة ١٣٤٩ه أعطاه حكيم الأمّة خلافته فى هذا الطريق.
إفتاؤه
كان لحضرة الشّيخ مناسبةٌ تامّةٌ بالفقه والفتيا منذ زمن تدريسه بدار العلوم، فكان كثيراً ما يساعد شيخَه المفتيَ عزيز الرّحمن، رئيس هيئة الإفتاء -رحمه الله تعالى- ثم لما توفّاه الله تعالى، جعله الأساتذة رئيس هيئة الإفتاء بدار العلوم ليملأ الفراغ الناشئ بوفاة الشيخ عزيز الرحمن – قدّس الله تعالى سرّه – فلم يزل شيخنا المفتى- قدس الله سره – على هذا المنصب الجليل مذ سنة ١٣٥٠ه إلى ١٣٦٢ه. وانتشرت فتاواه فى هذه المدّة إلى مشارق الأرض ومغاربها.
كتب الشّيخ فى هذه المدة أكثر من أربعين ألف فتوى. وقد طبع منها عددٌ قصيرٌ باسم ” إمداد المفتين “، وهو الوشل القليل من ذلك البحر الواسع المحفوظ فى دفاتر دارالعلوم التى لم تطبع بعد. ولا شكّ أ نّها ذخيرة قيّمة للإسلام والمسلمين – يسّر اللهُ طبعَها- .
ثم لم يبرح حضرةُ الشيخ يكتب الفتاوى بعد ما فارق دارالعلوم الدّيوبنديّة، والأسف الشّديد على أنّه لم تضبط فتاواه مدّة تسع سنواتٍ. ثمّ لما هاجر إلى باكستان وأسّس فى عاصمتها معهداً دينيّاً باسم “دارالعلوم كراتشى” فى سنة ١٣٧١هـ ، ضبطت فتاواه فى دفاترها مرّة أخرى، وبلغ عددُها اليوم زهاء ثمانين ألفَ فتوى. وهذا كلُّه ما أصدر خلال 1371هـ وسنة ١٣٨3هـ ، سوى الفتاوى الشفاهيّة الّتى تصدر على الهاتف طول اللّيل والنّهار.
وتُعتبر “دارالعلوم كراتشى” ببركة شيخنا المفتى من أكبر مراكز الفُتيا فى ديار الهند وباكستان، يرجع إليها المستفتون من سائر البلاد والأقطار، من المملكة العربيّة السعوديّة، ومصر، والشام، والعراق، وإيران، وأفغانستان، وملايا، وإندويسيا، وتركيا، وأمريكيا، وبريطانيا، والإفريقيا وغيرها مما لا يُحصَى عددُها.
جهاده فى بناء باكستان
كان المسلمون زمن تدريس الشّيخ بدارالعلوم تدور عليهم رحى الاستعمار الغربيّ، ولم يزل علماء دارالعلوم منذ بداءة الأمر فى جهد جهيد للحرّية والاستقلال. وفى هذا المشروع العظيم بذل الإمامُ المجاهدُ شيخُ الهند مولانا محمود حسن – رحمه الله تعالى – جميع حياته، وابتُلِيَ بأشدّ مايكون من الأذى زمن اعتقاله بجزيرة “مالته”، ثمّ لم يبرح يجتهد فى هذا السّبيل حتّى انتقل إلى رحمة الله.
ثمّ صارت أمانى الحريّة تداعب خيال المسلمين، ولم يفتر [تفتر] هممهم عن إدراك هذا الغرض، حتّى التحق بهم الهنادكة، على أن يشاركوهم فى حكومة الهند بعد استقلالها على طريق الدّيمقراطيّة.
وكان حكيمُ الأمّة الشّيخُ التهانويُّ يَرَى منذ زمانٍ أنّه لانجاحَ للمسلمين إلا بتكوين مملكةٍ مستقلّةٍ حرّةٍ يُنفذون فيها أحكامَ شريعتِهم، ويعيشون فيها مسلمين صادقين. فلم تكن للمسلمين عنده مسئلةٌ واحدةٌ – مسئلةُ التحرّر من الاستعمار الغربيّ – فحسب، وإنّما كان هناك مسئلتان، الأُولىٰ: التحرير [۵] من الاستعمار الغربيّ. والثّانية: تأسيس مملكة إسلاميّة مستقلّة لايشاركهم فيها الهنادك ولا أمّة أخرى من الأمم الكافرة.
وأمّا الأحزاب السياسيّة يومئذٍ، فكانت بأجمعها لا تهدف إلّا إلى التّحرّر من الاستعمار الأجنبيّ، ولم يكن بين أيديهم غرضٌ لتقسيم البلاد إلى المسلمين والكفّار، بناءً على فكرة الوطنيّة الفاسدة، واعتقاداً منهم بأنّ الهنديّين – مسلمهم وكافرهم – قومٌ واحدٌ، وإنّما نريد أن يزول عنّا الاستعمارُ، ثمّ مسلمُنا وهندوكُنا سواءٌ. ومن العجائب أن طائفة من علماء المسلمين التبس عليهم الأمر وقبلوا هذا الرأي ظنّا منهم لأنهم لا سبيل إلى حرية البلاد إلا بهذا الاشتراك.

ولكن نوّر اللهُ ضريحَ شيخنا التهانويّ، فإنّه لم يرض بذلك، إذ كان يرى أنّ المسلمين سوف تُلِمّ بهم النّوازلُ تحت الحكومة الهندوكيّة أكثر مما ألمت بهم فى الحكومة الغربيّة، ثم هذا الاختلاط بالهنادك يفضى إلى اندماج الإسلام فى الكفر، وفساد عقائد المسلمين، ودمار أخلاقهم، ودعارة أعمالهم، و لا يزال الوازع الدّينيّ يتناقص فيهم، حتّى لايبقى للأجيال الآتية من تلادهم الثّمين، إلا كلمة الإسلام خاويةً عن حقيقتها، مُقْفِرَةً عن روحها.
فكان يتمنّى أن يقوم بهذه الدعوة حزبٌ من المسلمين ويدعوهم إلى نظريّة الإسلام، واجتياح أوثان الوطن التى وطئها نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم بقدمه.
وحقّق الله أمانِيَه بأن قام حزبُ “مسلم ليك” بنعرة باكستان، فأشار حكيم الأمّة الشّيخ أشرف علي التهانويّ عامّة المسلمين والعلماءَ بتأييد هذه الدّعوة، فقام بها كثيرٌ من عوامّ المسلمين والعلماء. وكان فى مقدمتهم الإمام الدّاعية شيخُ الإسلام شبّير أحمد العثمانيّ، ومولانا الشّيخ ظفر أحمد العثمانيّ، وفضيلةُ شيخنا المفتى – رحمه [رحمهم] الله تعالى- . و هم الذين أسّسوا جمعيّة من العلماء باسم “جمعيّة علماء الإسلام ” حتّى تُجاهِد فى هذا السّبيل، وتحضّ المسلمين على الاتّحاد لحماية الدّين، وتأييد فكرة باكستان.
وصرف شيخُنا فى القيام بهذا المشروع لياليَه وأنهارَه. ثمّ لما أصبح معظمُ التفاتِه إلى هذه الأشغال السّياسيّة، الّتى لم يكن يرى نجاة المسلمين إلّا بها، لم يجد وقتاً صالحا للمُضِيّ فى أشغاله التّدريسيّة بدار العلوم، على أنه رأى بعض علماءها الكبار ىخالفون فكرة باكستان، فخشي على أهلها افتراق كلمتهم، ولم يجد بُدّاً من أن يفارقَها بعد ما قَضَى فى ساحتها مُعظمَ عمرِه، وانعزل عن التّدريس والإفتاء بها فى سنة ١٣٦2 [فى المقال المطبوع مع أحكام القرآن 1363] من الهجرة. وحينئذٍ صارت جميعُ أوقاته موقوفةً على الجهاد فى بناء باكستان. فتجوّل لأجله فى أنحاء الهند وجوانبها، وأيقظ عوامَّ المسلمين عن رُقادهم بلسانه وقلمه، وأخبرهم بمكايد أعدائهم الكفّار.
ومما لايشكّ فيه أحدٌ تشرّف بزيارة الشّيخ، أنّ الله تعالى أودع فى كلامه أثراً، وفى عظته قبولاً. فاستقبله النّجاحُ فى كلِّ مكانٍ بفضل الله تعالى وكَرَمِه. والحقّ أنّ لجهودِه المتواصِلة كبيرَ فضلٍ فى بناء باكستان، واعترف بعضُ قادتها بأنّه لم يكن يحصل النّجاح فى كثير من الأمور لولاها.
وفى السنة ١٣٦٧ من الهجرة الموافقة للسنة ١٩٤٧ ميلاديّاً، منّ الله تعالى على شعب الهند المسلمين، وحان أن تُثمِر جهودُهم الّتى استمرّت أحقاباً، وبرزت على خريطة العالَم رسومُ مملكةٍ جديدةٍ إسلاميّةٍ، فللّٰه الحمدُ أوّلاً وآخراً.
حصلت للمسلمين هذه المملكةُ كى يقيموا فيها دينَهم، ويُنفِذوا تشريعَهم، ويدرءوا عن أنفسهم جميعَ الأقذار الّتى تلوّثوا بها للجوار الأجنبيّ الكافر.
هجرته إلى باكستان
فكان من الواجب على العلماء المجاهدين أن يهاجروا إلى باكستان ويبذلوا جهودَهم فى تكوين دستورٍ إسلاميٍّ يصلح أساساً للحكومة فيها. فاقتفى شيخُنا المفتى – رحمه الله تعالى – سنّة النبيّ الأمين – صلى الله عليه وسلم – وهجر موطنَه الأليف الّذى حلّ فيه الشّباب تميمته، وقضى فيه خمساً وخمسين سنة من عمره.
وكان بين يديه بعد الهجرة إلى باكستان مشروعان مهمّان. أمّا الأوّل:فما وصفنا من تكوين دستورٍ إسلاميٍّ وإقامةِ الدّين فى باكستان بجميع مناحيه الطيّبة. وأمّا الثّانى: فتأسيس معهد دينيٍّ ينشر معارفَ الإسلام وعلومَه على ما تقتضيه المملكةُ الحديثةُ.
جهودُه فى إقامة الدّين فى باكستان
وقرّرت حكومة باكستان – فى سنة ١٩٤٩م – مجلساً من أكابر علمائها ليقترحوا لمجلس النُّوّاب أصولاً تُتّخذ كأساسٍ لدستور المملكة، واختارت شيخَنا المفتيَ رحمه الله ليكون عضواً من أعضائه، فلم يزل يعمل فيه بكلّ نشاطٍ مدّة أربع سنوات.
وفى أثناء هذه المدّة، اقترحت الحكومةُ دستوراً، فإذا معظمُه ما يضادّ الشّريعةَ الإسلاميّة القويمة، ولما استنكره علماءُ باكستان، رضيت الحكومةُ بقبول ما يتّفق عليه جميعُ العلماء من سائر الفِرَقِ الإسلاميّة، ظنّاً منهم بأنّ هذا الاتّفاق متعذّرٌ لشدّة الخلافات بين الفرق الإسلاميّة. حتى اعتقدت بأن اتفاقهم على أمر جامع مما لا يقع عادة.
ولكنّ الفضلَ الكبيرَ يرجِع إلى العلماء المخلصين، أمثال سماحة شيخِنا المفتى -رحمهم الله تعالى- أنّهم شمّروا عن سواعدهم لتحقيق هذا الأمر الذى كانت العقول تستحيله، و اجتهدوا – ليالي وأنهاراً – فى جمع كلمة الإسلام، وحضُّوا الفِرَقَ المختلِفةَ على الاتّحاد لحماية الدّين، حتّى رضيَ علماءُها بالاجتماع فى محلٍّ واحدٍ، وعقدوا فى كراتشى مؤتمراً حافلاً واحتشدوا فيه من كلِّ ناحية. وحقّاً ! كان هذا المؤتمرُ تاريخيّاً قد كذبت مايصرُخ به أعداءُ الدّين من أنّ العلماءَ لايعرفون إلّا الخلافَ والنّزاعَ، إذ مثّل هذا المؤتمرُ دستور المملكة على منهاج الدّين بحيث أجمعت عليه الفِرَقُ، ولم يختلف فيه اثنان، ولم ينتطح فيه عنزان، ثم أعلنت الحكومةُ أصولاً جديدةً ونشرتها إلى عوامّ المسلمين واستعملت [٦] فيها آرائَهم . فشعر العلماءُ مرّةً أخرَى بالحاجة إلى مؤتمر كمؤتمرٍ سابقٍ، حتّى يجتمعَ فيه العلماءُ وينظروا فيها ويقدّموا آرائهم بإجماعٍ واتّفاقٍ.
فاجتهد العلماءُ، أمثال شيخِنا – رحمه الله تعالى – لعقد هذا المؤتمر، وأتاح الله لهم الفوزَ والنّجاحَ فى هذا المشروع إلى أن أتمّ المؤتمرُ عملَه، وأصلح الفسادَ الّذى كان الدُّستورُ الجديدُ يحتوِى عليه.
ثمّ لم يزل أمرُ الدُّستور فى شزر وحل [۷] إلى يومنا هذا، فتارةً تتألّق الفضاء ببروق الأمل، وأخرى يحيط بها قتام اليأس والقنوط. و لكنّ الشيخ لا يأتلى فى جهده ما أمكن، مع ما به من إلمام الشّيب، وازدحام الأشغال، وانتقاص القُوى، شكر اللهُ تعالى سعيه.
تأسيس دارالعلوم فى كراتشى
هاجر الشيخ إلى باكستان ولم يكن فى بلادها الكبيرة – ولا سيّما فى عاصمتها كراتشى – معهدٌ دينيٌّ يقوم بتدريس المعارف الإسلاميّة وإشاعتها كما ينبغى، وكانت الحاجة قد اشتدّت إليه بعد بناء باكستان، حتّى يربى الجيل الجديد بما يُدنيهم إلى هدى الدّين فى جميع مناحى الحياة، ويفرغ أذهانهم فى قالب إسلاميّ جميل، إذ هم المعقود عليهم الأمل فى الاستقلال أعياء المملكة [۸] فى الزّمان الآتى.
فأسّس الشيخُ – بتوفيق الله تعالى و عونه – معهداً عامراً فى حارة من حارات كراتشى، وهو الّذى يُعرَف الآن بدار العلوم، ويُعتبر من أكبر مراكز العلوم الدّينيّة فى باكستان. وشرّف اللهُ تعالى إخلاصَ نيّته بالقبول، وأصبح هذا المعهدُ منهلاً عذباً أكبّ عليه الطُّلّابُ من أنحاء البلاد وجوانبها، وسُقوا بمعينه الزُّلال المتدفّق، حتّى ضاق عنهم المكانُ ومسّت الحاجةُ إلى مكانٍ أوسعَ . فوهب اللهُ بفضله قطعةً واسعةً من الأرض فى ضاحية من ضواحى البلدة، فبنى عليها مبنًى فسيحاً رائعاً بمعزلٍ عن الجلبة والضوضاء.يسكنه الآن آلاف الطّلبة من مختلف أنحاء العالَم. وهب الشيخ لهذه الجامعة وقوّته وحياته وتفكيره.
مؤلفاته
لحضرة الشيخ – رحمه الله – مؤلَّفاتٌ كثيرةٌ نافعةٌ قد جاوز عددُها من مائة، معظمها باللّغة الأرديّة فى علم التّفسير، و الحديث، و الفقه، والتّصوُّف، والأدب، و الكلام، و المعاشرة وغيرها. ونذكر فى هذا الموضع بعض ما لا نجد من ذكره بُدّاً.
١-معارف القرآن
وهو تفسيرٌ نادر كان يُلقيه حضرة الشيخ محاضرةً على الإذاعة الباكستانيّة صباح كلّ يوم الجمعة، إنّه تفسير جامع يحتوى على مباحث نادرة أحدثها عصرنا الحديث، ومما نعتقد فيه أنّه لا يوجد فى الأرديّة مثله فى سهولة ودقّة المعانى وكثرة الإجداء، لا يقصر نفعه على الخاصّة ولا العامّة، وقد طبع فى ثمانى مجلّدات ضخمة باللغة الأرديّة. وترجم إلى الإنكليزيّة والفارسيّة والبنغاليّة وعدّة لغات أخرى.
٢-أحكام القرآن
وهو شرح جليل للأحكام المستخرجة من القرآن الكريم، قد ألّفه بأمر حكيم الأمّة التھانويّ، قدّس الله سرّه، باللغة العربيّة، فإنّه كان يشعر بحاجة شديدة إلى كتاب جامع لأحكام القرآن، يشمل المسائل الّتى حدثت فى العصور الأخيرة، فقرّر لتأليفه جماعةً من أصحابه الأربعة: فضيلة شيخنا المفتى، وسماحة مولانا الشيخ ظفر أحمد العثمانيّ، وفضيلة الشّيخ محمد إدريس الكاندلويّ، وحضرة مولانا الشيخ المفتى جميل أحمد التھانوي، وفوّض إلى فضيلة شيخنا المفتى تفسير أواخر القرآن من سورة الشعراء إلى الحجرات. فألّفه الشّيخ فى مجلّد ضخيم يحتوى على مباحث نفيسة لا تكاد تجدها مجتمعة فى كتاب غيره، ثمّ هو يشمل أجزاء مفردة على مباحث مهمّة، فصارت كتبا مستقلّة وافية لموضوعاتها، وهي:
“كشف الرّيب عن مسألة علم الغيب” و “تكميل الحبور بسماع أهل القبور” و”السعي الحثيث فى تفسير لهو الحديث” وتنقيح الكلام فى معنى الصلاة والسّلام” و “الإبانة لمعنى التّسبّب والإعانة” و “تفصيل الخطاب فى تفسير آيات الحجاب” و”تحقيق السّبر بعذاب القبر” و “المقالة المرضيّة فى حكم سجدة التّحيّة” و “تحقيق السحر وأحكامه”.
٣-ختم النبوّة
وهو كتابٌ حافلٌ للرّدّ على الدّجاجلة القاديانيّين، قد أثبت فيه الشّيخُ عقيدةَ انقضاء النُّبُوّة على نبيّنا الحبيب صلى الله عليه وسلّم، بجميع براهينها من القرآن الكريم والسنّة الرّاشدة، و إجماع الأمّة، ثم ردّ على جميع الشّبهات الّتى أورد المتنبّؤن بما يشفِى كلّ عيٍّ، و يُخرجَه من أوحال الشّكّ إلى سهل اليقين. وقد طُبِع هذا الكتابُ باللّغة الأرديّة عدّةَ مرّاتٍ، فحوت زُهاء خمسمائة صفحةٍ، وقد تلقّاه الأمّة بالقبول، وزعمه بعض النّقّاد أحسنَ ما أُلّف فى الموضوع باللّغة الأُرديّة.
٤-سيرة خاتم الأنبياء
وهو كتابٌ وجيزٌ جامعٌ لسيرة رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلّم بجميع أنباءها الهامّة، ألّفها الشّيخ بأسلوبٍ وجيزٍ رائعٍ يورث حبّ النبيّ الكريم – عليه أفضل الصلوات والسلام – و أصحابه البررة الطاهرين – رضي الله عنهم -. قد طُبع هذا الكتابُ باللّغة الأرديّة أكثرمن خمسين مرّة، واختارته بعضُ المدارس فى مقرّرها الدينيّ فى الهند وباكستان. ثمّ ترجمه النّاسُ إلى لغات محلّية أخرى كالسنديّة، والكجراتيّة، والبنغاليّة.
٥-آلات جديده
وهوكتاب قيّم جمع فيه الشيخ أحكام المخترعات الحديثة التى لم تكن فى زمن النبي عليه السلام، ولا فى عصر الفقهاء المجتهدين، وتعلّقت بها مسائلُ لا يوجد فيها نصٌّ، كالصّلوٰة على المجهر، وتلاوة القرآن الكريم على المذياع والمسجل والحاكى، والتلقيح فى الصوم، والتداوى بدم الإنسان، والتلهى بالمسارح، و الشهادة بالهاتف، وكذا. والحقّ أ نّه لم يكن يؤمل هذا الأمر العظيم إلا من فضيلة شيخنا المفتى، الّذى وهبه الله ملكة فقهيّة راسخةً، وفهماً سديداً لتخريج الأحكام عن مصادرها، وذوقاً سليماً للفوز بأسرارها.
قد طبع هذا الكتاب باللّغة الأرديّة مرّتين . فجزاه الله عن سائر المسلمين خير الجزاء.
٦-أحكام الأراضى
وهوكتابٌ جمع فيه الشيخ أحكام الأراضى السلطانيّة والموقوفة والمملوكة بجميع أنواعها، و ما يجب عليها من عشرٍ أو خراجٍ، وشرح فيها نظام ديننا العادل، ثم أوضح الأحكام المختصّة بأراضى الهند وباكستان، وذكر فى غضونها جملةً لطيفةً فى تاريخ فتوح الهند على أيدى المسلمين، حتّى تتضح مكانة الأراضى الهنديّة فيمايتعلّق بأحكام الدّين.
وحقّاً ! إنّ الأمّة الإسلاميّة مرهونةٌ له بهذا المنّ الكبير، الّذى سَهِر الشيخُ لأجله ليالى، وفجر الصّخور، حتى فاز بثمار من دوحة ذات شجون، والكتاب يحتوى على أربع مائة صفحة تقريبا.
٧-إمدادُ المفتين
وهى مجموعة لبعض فتاواه الّتى أفادها زمن إقامته بدار العلوم فى ديوبند، فصارت أربع مجلّداتٍ ضخام، وهي – كما ذكرنا – عددٌ قصيرٌ من فتاواه الّتى بلغ عددُها اليوم زهاء مائة ألف فتوى. و معظم هذه الفتاوى بلغة أرديّة سهلة، ينتفع بها كلُّ عالِمٍ وعامّيٍّ، وبعضها يشتمل مباحثَ هامّة علميّة مبسوطة، إن أفرزناها صارت كتباً مستقلّةً.
ونرجو اللهَ العظيم أن يحقّق آمالَنا بطبع البقيّة من الفتاوى عن قريب.
٨-التّصريح بما تواتر فى نزول المسيح
وهى رسالة وجيزة باللغة العربيّة، ألّفها الشيخ بأمر الإمام الحافظ الشّيخ أنور الكشميريّ – رحمه الله – وجمع فيه جميعَ الأحاديث والرّوايات الّتى أخبر فيها النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلّم عن أمارات المسيح عليه السلام وصفاته، حتّى يتبيّن كذبُ ما ادّعاه المتنبّئ القاديانيّ أنّه المسيح الموعود. وقى اللهُ عن فتنته جميعَ المسلمين.
طُبِع هذا الكتابُ بديوبند، ثمّ نَفِد، ثمّ نشره فضيلةُ الشّيخُ عبدُ الفتّاح أبوغدّة رحمه الله بتعليقه القيم من الشام.
٩-هدية المهديين فى آيات خاتم النبيين
هذه رسالة أخرى فى الردّ على القاديانيّ الكذّاب، ألّفه الشيخ بأمر شيخه الأنور مثل كتاب سابق .
١٠-ثمرات الأوراق
وهى مجموعة لطيفة من مختارات الأدب والتاريخ والتصوّف والمعاشرة والعلوم الأخرى بلغة أرديّة، قد جمعها الشيخ من كتب كثيرة شتّى خلال مطالعته إيّاها، يجد فيه كل رجل ما يناسب ذوقه ويُروِّق بصره. وقد طُبع الآن مرّةً ثانيةً وهو يحتوى على نحو خمسمائة صفحة.
ولحضرة الشّيخ كُتُبٌ كثيرةٌ أخرى يجاوز عددُها مائةً، وطُبع أكثرُها باللغة الأرديّة، مما يتعلّق بسائر العلوم الدينيّة، وتلقّاها الأمّة بالقبول، ونفع الله بها خلقاً كثيراً. و إنّما ذكرنا بعضها الأهمّ و تركنا البقيّة، إذ يحتاج ذكرها إلى رسالةٍ مفردةٍ.
و بالجملة، فقد وفّقه الله تعالى لأن يخدم الإسلام والمسلمين بكلِّ عضوٍ من أعضائه، وأصبحت حيوٰتُه كان موقوفةً على الدّين وأهله، ولعلَّنا لا نعمل الإطراء إذا قلنا: كان لا يخطو خُطوةً إلا وهي ترجع إلى باعثٍ دينيٍّ حميدٍ. فتارةً كان مشتغلا بتدريس الحديث فى دارالعلوم وإشراف أحوالها، ومرّةً رأيناه يصنّف كتباً دينيّة قيّمة يكافح بها فتناً أحدقت بالإسلام من كل جانب، وطوراً شاهدناه خطيبا يحضّ المسلمين على الإياب إلى هداية دينهم، وأخرى زرناه و هو يسعى لتطبيق الشريعة الإسلاميّة فى باكستان، وكان يعنى بشأن المسلمين فى جميع أنحاء الأرض، و كان يتوجّع بأحوالهم المؤلمة.
فهذا ما صرف فيه الشيخ لياليَه وأنهارَه وما اجتهد فيه – فى السنّ الكبير- بكرةً وأصيلاً بحيث تقصر دونه همم الشُّبّان، [حتى توّفاه الله تعالى للية الحادية عشر من شهر شوّال المكرّم سنة ١٣٩٦ ه الموافق لشهر أكتوبر من سنة ١٩٧٦ م، وقد دفن فى مقبرة “دار العلوم كراتشى”، وكان يوماً مشهوداً شهد جنازتَه نحوُ خمسين ألف رجل . رحمه الله تعالى رحمة واسعة، و] تقبّل الله سعيَه وتضحياتِه الغاليةَ فى سبيل إعلاء كلمة الله ونشر هدايتها.[۹]
ذوقه الرائع بالشعر والأدب
كان لحضرة الشيخ ذوقٌ لطيفٌ بالشّعر والأدب، منذ ميعة صباه.ثم لم يزل إلى رقى وازدهار بما حصل له فى دارالعلوم من الجوّ العبيق بأزهار الأدب الناضرة، وكان معظم أساتذته ممن وهبه الله تعالى ملكة فى هذه الصّناعة كسائر العلوم . وأسّس الشيخ الأنور – رحمه الله تعالى – لجنة أدبيّة لتربية أذهان الناشئين، وسمّاها “نادية الأدب”، وكانت هذه النّاديةُ تعقِد حفلاتٍ أدبيّةً أسبوعيّةً أو شهريّةً يجتمع فيها الطُّلّابُ والأساتذة،و يلقون كلماتهم، ويُنشِدون أشعارَهم، وكان فضيلة شيخنا المفتى – بما وهبه الله تعالى من ذوقٍ فطريّ – من سبّاق هذه الحلبة ومبرزي هذا الميدان.
وهكذا ارتقى ذوقُه اللّطيفُ، حتّى أصبح يقول شعراً رائعاً فى الّلغة الأرديّة والفارسيّة والعربيّة. وهو – و إن لم يكن اختار الشّعر كصناعةٍ وفنٍّ له – فقد اجتمعت عنده مجموعة لطيفةٌ من أشعاره فى اللّغات الثلاثة، وقد طُبع بعضُ أشعاره الأرديّة والفارسيّة فى كتابه “ثمرات الأوراق”، وترى فيها ما يتلذّذ به الأسماع و يهتزّ له الذّوقُ السّليمُ.
ومعظم أشعاره مشتملٌ على حكمة مقبولة، وعظة مؤثرة، ولا ترى فيها الغرام التافه المبذول، وإنّما تشاهد حبّاً صادقاً لله ورسوله، وإثارة على صالح الأعمال وفكر الآخرة.
وقد طبعت أشعاره العربيّة فى كتيبٍ لطيفٍ باسم “نفحات” [۱۰] وإليكم باقة متنوّعة الزهر قطفناها لكم من رياض قصائده المتفرّقة.

الالتجاء إلى الله:
ياويه نفسى فى الأهواء أهوى بى ۔۔۔۔۔۔۔۔ ولوصـبرت لكــان الصّبر أولى بى
أمرتهـا فأبـت، نهيتهـا فأتــت ۔۔۔۔۔۔۔۔ حتّى هوت بى فيمـا ليس يحرى بى
ياربّ، فاكف هموماً لى أكابدها ۔۔۔۔۔۔۔۔ واجعل لنفسك تطوافى وتطــلابى
أنت الوليّ إذا ولى الولاة غـــداً ۔۔۔۔۔۔۔۔ وأسلمت جسدى للتّراب أتــرابى
وأنت أقرب من نفسى إلى نفسى ۔۔۔۔۔۔۔۔ وأنت عــن سائر الأدنيـن أدنى بى
أتيت بابك لمـا عيل مصــطبرى ۔۔۔۔۔۔۔۔ وحسن ظنّى فى نعمــاك أتى بــى
فإن طردت، وذاك العدل، ياصمدى ۔۔۔۔۔۔۔۔ فمــا لعبدك فيمــا بعد من بـاب
أزال الشيب، رب، سواد شعرى ۔۔۔۔۔۔۔۔ فهل لســواد وجهـى مـن مزيـل؟
أطعت مطامعى، فاستعبــدتني ۔۔۔۔۔۔۔۔ عــلى ذُلّ إلـى مــرعى وبيـــل

منقبة الرسول صلى الله عليه وسلّم:
علا، فكان كقاب القوس منزلة [۱۱]  ۔۔۔۔۔۔۔۔ قد حلّ من شرفات المجد أعلاهـا
نادى، فسمّع آذاناً بهـا صــمـم ۔۔۔۔۔۔۔۔ جــلى، فأعين عمى الخلق جــلاهـا
واهاً لطيبة، مـازالــت منـوّرة ۔۔۔۔۔۔۔۔ طابت مشارقُها من طيب رياهــا
من للشفيع بأسحار بها سلفت ۔۔۔۔۔۔۔۔ وعيشـــة فى حواليهـا تـمــلّاهـــا

الحكمة والعظة:
وهاتف حقّ كل كون وكائـن ۔۔۔۔۔۔۔۔ بأعلى نداء، إن صـغيت لقالهــا
ظهور جمال الحق أورثه الخفا ۔۔۔۔۔۔۔۔ به ضلّت الأقوام، يا لضـلالهـا!
تحيّرت الآراء حتى تفــرّقت ۔۔۔۔۔۔۔۔ على فرق حسب القوى ومجالهـا

المديح:
وقال يمدح الشيخ الأنور، قدّس الله سرّه:
فنادى طواغيت الضلال مهدداً ۔۔۔۔۔۔۔۔ لينصـر دين الله نصـراً مـؤزّراً
فشيد أركان الهــدى وأنـــارهـا ۔۔۔۔۔۔۔۔ ومذر بنيـان الضـلال وبــذرا
فحسبى به فى العلم والدّين قدوة ۔۔۔۔۔۔۔۔ وحسبى به فى مشهد القوم مفخرا
لعلّ الرّؤوف البر يلحقـني بـه ۔۔۔۔۔۔۔۔ بلى! والرجا فى الله فليك أكثـرا

الرثاء:
وقال يرثى والده رحمه الله:
حميناه أيـاما فلم تجــد حميــة ۔۔۔۔۔۔۔۔ وكنا على حذر فلم ينفع الحذر
وكنا على خوف من البين دائـما ۔۔۔۔۔۔۔۔ فلمّا تولّى كان أدهاه، بـل أمـر
فأضحى ضميري من دموعى بارزا ۔۔۔۔۔۔۔۔ وأفظع منه، ما بأحشـاي مستتر [۱۲]

ومما رثى به الشّيخ الأنور:
أحق، عبد الله، أن لست زائرا ۔۔۔۔۔۔۔۔ بعيني بعد اليوم شيخى أنورا؟
فلو أنّها رزء من الدهر واحــد ۔۔۔۔۔۔۔۔ ولكنّه غيم النوائب أمـطـرا
فما فقده، والله، فقد لواحد ۔۔۔۔۔۔۔۔ وربّى، جناحا العلم منه تكسّرا

ومما رثى به مولانا الشيخ شبير أحمد العثمانيّ:
جرت بسرى أقلام الجفون على ۔۔۔۔۔۔۔۔ صفيحة الوجه،والأحزان تمليه
من للأرامل والأيتـام بعـدهـم، ۔۔۔۔۔۔۔۔ من للغريب يسـلى أو يداريــه
من للمكارم والأخلاق قد يتمت ۔۔۔۔۔۔۔۔ والعلم والحلم قد هدت مبانيـه

الغزل:
وقفنا على الأطلال نبـكى ونشتكى ۔۔۔۔۔۔۔۔ إليها، وذكر البين من ذاك أطــول
بكيناه، فأبكينا، ولا مثل نـاقف [۱۳]  ۔۔۔۔۔۔۔۔ لحنـظلة فى الحىّ،يـوم تحمَــــلوا
يقول نصيـحي فى هواه توجّــعـاً ۔۔۔۔۔۔۔۔”تعـزّ [۱٤] ! فـإن الصـبر بالحُرّ أجمـل”
يصــبرنى والصـبر عين شكيتى! ۔۔۔۔۔۔۔۔ وما غـالنى فى الحب إلا التجمّـل
شيم الليــالى أن ترينى بُدورهــا ۔۔۔۔۔۔۔۔ والعــين غــير بـدورهـا يـرتــاد
أعيـا سقيمُهم الرُّقـاةَ وعنـــده ۔۔۔۔۔۔۔۔ مرض الطبيـب وعـيدت العـواد
يا حسرةً لعشيات الحمى سلفت ۔۔۔۔۔۔۔۔ عنـد الحبيب بحسن الدّل والتيـه
كتمت دائي حتى عيل مصطبرى ۔۔۔۔۔۔۔۔ وليس منكتمـاً مــا الله مبديـه
بين جـــنبى جــمـر زكى [ذكا؟] ۔۔۔۔۔۔۔۔ ســمـــوه قــلباً ولا أراه

وهذا آخر ما أردنا إيراده فى هذا الجزء الوجيز، و الله نسئل أن يهدينا صراطاً مستقيماً فى كل من أمور دنيانا وآخرتنا، وله الحمد أوّلاً و آخراً.

محمد تقي العثمانيّ ١٦/ذوالقعد الحرام
دارالعلوم كراتشى سنة ١٣٨٣ من الهجرة