مفتاح الفوز والسعادة

كلمة ألقيت فى مؤتمر السيرة العالمي الّذى عقدته وزارة الشؤون الدينية لدولة قطر فى الدوحة، سنة 1979م، وقد شارك فيه عدد غير قليل من كبار علماء الإسلام من شتّى الأقطار الإسلاميّة.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلوة والسّلام على خير خلقه سيدنا ومولانا محمّد وعلى اٰله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسانص إلى يوم الدّين.
وبعد، فأيّها السّادة الأفاضل!
إنّى لا أريد ان أقرأ بحثاً، فإنّ البحوثَ العلميّةَ قد كَثُرَت، ولا أن أُلقِيَ كلمةً، فإنّ الكلماتِ القيّمةَ قد أُلْقِيَت، والحمد لله. ونستطيع أن نقتبس من خلالها ما يفيدنا فوائدَ وينفعَنَا منافعَ علميّةً.
ولكنّى أريد أن أُلفِت الأنظار إلى نُقطةٍ هامّةٍ ربّما تغيب عن أعيُننا رغم كونها ظاهرةً بديهيّةً:
وذلك أنّنا نؤمن جميعاً، والحمدُ لله، بأنّ هذه الثَّوْرةَ الآمِنَةَ الإسلاميَّةَ الّتى أحدثها رسولُ الله صلى الله علييه وسلم إنّما حدث باتّباع سنّته وسيرته عليه السلام فى عبادته وخُلُقِه، ومعاملاتِه ومعاشرتِه، وفى سائر نواحى الحياة. ومما نتّفق عليه أيضاً أنّنا لايمكن لنا إعادةُ ذلك الماضى المجيد من العزّة والكرامة، والرّقي والازدهار، إلّا بالرّجوع إلى سيرته صلى الله عله وسلم مرّةً أُخرَى.
فهذا ما نعتقده جميعاً ونؤمِنُ به. ولكن السُّؤال المهِمّ ههنا: لماذا لانقطف ثمراتِ هذا الإيمان؟ مع أنّ الصّحابة رضى الله عنهم بلغوا به ذروة المجد والكمال؟ فإذا دَرَسْنَا هذا الموضوعَ فى حياة الصّحابة رضى الله عنهم رأينا أنّ إيمانهم بهذه الحقيقة لم يكن إيماناً عقليّاً أو نَظَرِيّاً فحسبُ، وإنّما كان إيماناً قلبيّاً وطبعيّاً يعضده حبُّهم العميقُ لله ولرسوله، فلم يكن يُعجِبُهم إلّا هَدْيُ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم فى حياتِه ومعاشَرَتِه، وخُلُقِه وسيرِته، وعبادتِه ومعاملتِه، حتّى وفى صورته وزيّه، وكانت ميّزة اتّباعهم لسُنّة الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّهم لم يخافوا فيه لومةَ لائمٍ، ولا إنكارَ مُنكِرٍ، ولم يحتفلوا أبداً لسُخريّة الكُفّار أو استهزاءِ الأجانب أو استخفاف المشركين بل ثَبَتُوا على السّنّة النّبويّة حُبّاً لهم إيّاها. واعتقاداً جازماً منهم بأنّه لا خير فى غيرها، ولم يتركوها إرضاءً للمشركين او مُداراةً للكُفّار أو استمالةً لقلوب الأجانب، حتّى وفى أشياءَ نَعُدُّها بسيطةً جدّاً.
فقد أخرج ابنُ أبى شيبة وغيرُه عن إياس بن سلمة عن أبيه فى قصّةٍ طويلةٍ أنّه لما خرج عثمانُ بنُ عفّان رضى الله عنه رسولًا إلى أهل مكّة يوم الحديبيّة جاء عسكرُ المشركين فعَبِثُوا به وأساءوا له القولَ، ثم أجاره أبانُ بنُ سعيد بن العاص ابنُ عمه وحمله على السّرج وردفه، فلمّا قَدِم قال: يا ابن عمّ! مالى أراك متخشّعاً؟ أَسْبِل (يعنى إزارك) وكان إزارُه إلى نصف ساقيه،- ولا شكّ أنّه كان فى هذه المشورة بعضُ المصلحة فى الظّاهر، ولكن لم يرض بذلك عثمان رضى الله عنه وإنّما أجابهم بقوله:”هكذا إِزْرَة صاحبنا” (صلى الله عليه وسلم) (كنز العُمّال ٨: ٦٥)
وأخرج أبو نُعَيم وابنُ منده عن جَثَّامَة بن مساحق الكنانيّ رضى الله عنه وكان عمرُ قد بَعَثَه رسولاً إلى هرقل، قال: جلستُ فلم أدر ما تحتى؟ فإذا تحتى كُرسِيٌّ من ذَهَبٍ، فلمّا رأيت نزلتُ عنه، فضَحِك، فقال لى: لم نزلت عن هذا الّذى أكرمناك به؟ فقلت: إنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينهى عن مثل هذا. (كنز العُمّال ٧:٥١ والإصابة ١:٧٢٢)
فالحديث عن مثل هذه الأخبار طويلٌ، وتاريخُنا مُفْعَمٌ بهذه النّماذج الطَّيِّبَة لاتّباع النّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم، والّذى يتحصّل من أمثال هذه القِصَص هو أنّ الصّحابة رضى الله عنهم قد اتّبَعُوا النّبيَّ الكريمَ صلّى الله عليه وسلّم اتّباعاً كاملاً لا مدخل فيه للهوى، ولا للتّحريف، ولا للخوف من الأجانب، ولا للمبالاة باستهزاء الكفّار والمشركين.
وأمّا نحن، فمع إيمانِنا بأنّ سيرتَه صلَّى اللهُ عليه وسلّم خيرُ سيرةٍ نفرّقُ بين سُنَنِه عليه السّلام، فنختار منها ما نهواه، ونترُكُ أخرَى قائلين مرّةً بأنّها سنّةٌ عادِيّةٌ لايجب علينا اتّباعُها، كأنّنا وجدنا عادةً خيراً من عادته صلى الله عليه وسلم فاتّبعناها، والعياذ بالله، وتارة بأنّها سنّةٌ تُخالف المصلحةَ فى ظروفنا الحاضرة، وأُخرَى بأنّها كانت مشروعةً فى وقته صلى الله عليه وسلّم وليست مشروعةً فى عهدنا.
فأمثال هذه التّأويلات الّتى نرتكبها فى حياتنا ليلا ونهارا، إنّما تدُلُّ على أنّ إيمانَنَا لسنّةِ الرّسول صلى الله عليه وسلّم ينقصه الحبُّ، وهذا هو الفرق العظىم البَيِّن بين إيماننا وإيمان الصّحابة رضى الله عنهم، فلو كنّا نريد أن نلقى تلك العزّةَ والكرامةَ وذلك الرّقىّ والازدهار الّذى صار نصيبَ المسلمين فى القرون الأُولى بسبب اتّباع السّنّة النّبويّة على صاحبها السّلام، فلا بُدّ لَنَا أن نتّبعه صلى الله عله وسلم كما اتّبعه الصّحابةُ والتّابعون من غير تحريفٍ وتمويهٍ، ومن غير إرضاءٍ لما تهوى النّفوسُ، ومن غير خوفٍ من استهزاء الأجانب-فو الله ليس العزّ فى الأبنية الشّامخة، ولا فى القصور العالية، ولا فى الملابس الفاخرة، وإنّما العزّ فى اتّباع النّبيّ الكريم عليه الصّلوات والسلام الّذى كان يجوع يوماً ويشبَعُ يوماً، والّذى كان ينامُ على الحصير ويَربِط على بطنه الأحجارَ، ويَحفِر الخندقَ، ويحمِل بيده الشّريفةِ اللَّبِنات لبِناءِ المسجد، فلا عزَّ لنا إلّا بالاصطباغ التّامّ فى صِبْغته صلى الله عليه وسلم فى كلّ شيءٍ.
وإنّ هذا المؤتمرَ الحاشِدَ المبارَكَ الّذى جَمَعَ أهلَ العلمِ والفكرِ من مشارق الأرض ومغاربها، لَيَقْتَضِى منّا أن نُحاسِب أنفُسَنا على هذا الطّريق، وأن نَضَعَ للمسلمين مخطّطاً يَغرِس فى قلوبهم الحُبَّ العميقَ للسّنّة النّبويّة على صاحبها السّلام، حتّى لاتَغُرّهم الأهواءُ ولا النّظريّاتُ الأجنبيّةُ الفاسدةُ.
فأقترح أن يتّخِذَ هذا المؤتمرُ توصِيَاتٍ تاليةً بكلّ عزمٍ وإخلاصٍ:
١- يُوصِى هذا المؤتمرُ جميعَ المسلمين عامّةً وجميعَ أهلِ العلم والفكر ودعاةِ الإسلام خاصّةً أن يهتمُّوا اهتماماً بالغاً بالاتّباع التّامّ للسِّيرة والسُّنّة النّبويّة على صاحبها السّلام فى حياتهم ومعيشتهم ومعاشرتهم بما يجعل حياتَهم أُنموذَجاً عملِيًّا صالحاً للسُّنّة النّبويّة.
٢- يُوصِى هذا لمؤتمر جميع المسلمين فى كلّ زمانٍ ومكانٍ أن يُعَيِّن كُلُّ أحدهم وقتاً، ولو نصف ساعةٍ، كلَّ يومٍ لدِراسة السّيرة النّبويّة على صاحبها السّلام، يدرُسُها بنفسه ويقرأُها على أعضاء أسرته، ويحاسِبُ نَفْسَه كم عَمِل بأحكامها؟
٣- يَقترِح هذا المؤتمرُ من الحكوماتِ الإسلاميّةِ أن يجعلوا السّيرة النّبويّة مادّةً إجباريّةً من موادّ التّعليم فى كلّ مرحلةٍ من مراحل الدِّراسة فى المدارس والكُلّيّات والجامعات، وان يُعَيِّنُوا وقتاً صالحاً تُعَلَّم فيه السّيرةُ والسّنّةُ النّبويّةُ على الإذاعات كلَّ يومٍ.
٤- يُوصِى هذا المؤتمرُ أهل العلم والفكر أن يهتمّوا بنشر السّيرة النبوية فيما بين الشَّعب والعامّة بما يسهل لهم فهمُها، سواءٌ كان كتابةً أو خطابةً، وان لايطبّقوا القرآنَ والسّنةَ على النّظريات الأجنبيّة الحديثة بما يؤدِّى إلى التّحريف بل يجعلوا السّيرة النبوية كما هي، أُسوة لحلّ مشاكل المسلمين فى جميع شئون الحياة.