عقيدة الوحدانية
من
خلال حجة الوداع

بحث مقدم إلى ندوة الحج الكبرى لدورتها الثانية والثلاثين المنعقدة في مكة المكرمة فى الفترة ما بين2-5 ذي الحجة 1428هـ الموافق 12-15 ديسمبر(كانون الأول) 2007م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فإن الحجة التى حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر حياته الطيبة، وهى الحجة الوحيدة التى حجها بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، تسمى حجة الوداع، وحجة الإسلام ، وحجة التمام ، وحجة الكمال ، وحجة البلاغ [۱] ، لأنها لم تكن مفتصرة على أداء نسك من المناسك فحسب، ولا سفرة عادية من الأسفار، وإنما كانت إرساء لقواعد الإسلام، وتثبيتا للدين الحق القويم فى النفوس ، ورفعا لمعالمه وشعائره، وإحكاما لأحكامه وشرائعه، وبثا لرسالته الخالدة إلى البشرية جمعاء. وإن السفرة التى سافرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجلها جمعت بين عبادة ونسك، وإنابة وتضرع، وتعليم وتدريب، ودعوة وتبليغ، وتفسير قولى و عملى لأبعاد الشريعة المحمدية على صاحبها السلام التى تغطى جميع نواحى الحياة الفردية والاجتماعية. ويقول شيخنا الإمام الداعية الكبير الشيخ أبوالحسن على الندوى رحمه الله تعالى:
“وقد كانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، من الآيات البينات والمعجزات الخالدات، فقد كانت فريدة من بين سير الأنبياء وعباداتهم ومناسكهم فضلا عن سائر الناس، وقدكانت فريدة من نواح كثيرة. كانت فريدة من الناحية التعليمية والبلا غية، فريدة من الناحية الإصلاحية والتربوية، فريدة من الناحية الباطنية والروحية، فريدة فى مدى اهتمام الناس الذين أكرمهم الله بالسير فى ركابه، وحضورالموسم معه بتتبع آثاره وحفظ أخباره، ومراقبة حركاته وسكناته، وتسجيل غدواته وروحاته، وفى مدى اعتناء طبقات الأمة من السلف والخلف بكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم فى هذاالسفر من قول أوعمل، أوعادة أوعبادة، أو نفى وإثبات، أوتقرير أوإنكار، فقها واستنباطا للأحكام، واستخراجا للجزئيات…فكانت هذه الحجة تقوم مقام ألف خطبة، وألف درس، وكانت مدرسة متنقلة، ومسجدا سيارا، وثكنة جوالة، يتعلم فيها الجاهل وينتبه الغافل، وينشط فيهاالكسلان، ويقوى فيهاالضعيف. وكانت سحابة واحدة تغشاهم فى الحل والترحال، هى سحابة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وحبه وعطفه، وتربيته وإشرافه[۲] .
وبما أن هذه الحجة الشريفة جمعت بين أنواع من التعاليم النيرة، وألوان من الهداية النبوية الخالدة، فكانت جديرة بأن تُدرس من مختلف نواحيها، ويستفاد بها فى حياتنا الفردية والاجتماعية. ولقد أحسنت أمانة ندوة الحج الكبرى التابعة لوزارة الحج بالمملكة العربية السعودية الحبيبة أن جعلت حجة الوداع موضوعا لندوة الحج الكبرى هذاالعام، ونرجو أن تكون الأبحاث المعدة فى هذه الندوة تساهم مساهمة كبيرة فى إنارة معالم حجة الوداع، وفى الفهم الدقيق لأبعادهاالواسعة. وإنى فى هده الدراسة المتواضعة أريد أن أتكلم عن عقيدة الوحدانية من خلال حجة الوداع، فإنه هوالموضوع المفوض إلى فى هده الندوة. والوحدانية التى أحكمت حجة الوداع معالمها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى.
والثانى: وحدانية الدين الحق من خلال مناسك الحج.
والثالث: وحدانية الأمة المسلمة.
وأريد أن أتكلم عن هده النقاط الثلاثة فى ضوء ما اطلعنا عليه فى وقائع حجة الوداع، والله سبحانه وتعالى هوالموفق.
وحدانية الله سبحانه وتعالى
أما وحدانية الله سبحانه وتعالى فهى الحقيقة العظمى التى لاحقيقة أحق منه وأعظم. وهى الحقيقة التى كان الإيمان بها أعظم ركن من أركان الدين القويم فى جميع شرائع الأنبياء منذ بداية البشرية، وهى التى دعا إليها جميع الأنبياء أممهم، وأكدوا أهميتها، وأوصوا ذريتهم ومتبعيهم بالاستمساك بها، وأخذالحذر كل الحذر مما يخل بإخلاص التوحيد لله سبحانه بأي طريق من الطرق. قال الله سبحانه وتعالى:
﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون.﴾
]سورة البقرة،2:133[
وإن عقيدة التوحيد من أول ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إليه ، وتحمّل ما تحمل من المشاق من أجلها. ولانبالغ إن قلنا إنه صلى الله عليه وسلم وقف حياته الطيبة بأسرها لتبليغ هده العقيدة ونشرها، وكانت حجة الوداع مظهرا نيّرا لإحياء معالمها وإقامة شعائرها، وتطهير المشاعر المقدسة من أرجاس الشرك التى دسّ فيهاالمشركون فى الجاهلية.
وكان الحج من أشرف العبادات التى قام بها الأنبياء عليهم السلام، وأمر إبراهيم عليه السلام بنداء الناس جميعا إلى أداءه فى المشاعرالمقدسة، وكان من ظلم المشركين أنهم لوّثوا هذه العبادة العظيمة بعبادة الأوثان التى لما أنزل الله تعالى لها من سلطان. فأصبحت جميع مناسك الحج مشوبة بنوع من أنواع الشرك. فكانوا إذاأرادواالحج ابتدأوا بصنم من الأصنام يذهبون إليها ويُهِلّون عندها. وروت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فى الأنصار (تعنى أهل يثرب قبل إسلامهم:)
“كانوا قبل أن يسلموا يُهلّون لمناة الطاغية التى كانوا يعبدونها عندالمشلّل.”[۳]
ويقول أحمد اليعقوبيّ فى تاريخه:
“فكانت العرب إذاأرادت حجّ البيت الحرام وقفت كل قبيلة عند صنمها، وصلّوا عنده، ثم تلبّوا حتى تقدّموا مكة[٤] .”
فكأن هذه الأصنام كانت مواقيت لهم يحرمون عندها ويُهلّون. ثم كانوا يطوفون حول الأصنام، ويسمونه “الدُّوار” ولهذاللفظ ذكر فى شعر امرئ القيس وعنترة بن شداد، وذكر علماء اللغة أن “الدُّوار” صنم كانت العرب تنصبه، يجعلون موضعا حوله يدورون به، واسم ذلك الموضع “دُوار[۵] ” وهذا ما أراده امرؤ القيس فى قوله:
فعنّ لنا سِرب كأن نعاجه عذارى دُوار فى ملاء مذيّل
وأخرج البخارى عن أبى رجاء العُطاردى رضى الله عنه قال:
“كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا هو أخير منه ألقيناه، وأخذنا الآخر. فإذا لم نجد حجرا جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طُفنا به[٦] .”
وكانت القبائل التى تسمى “حِلّة” وهم غير الحُمس، يطوفون بالبيت عُراة وهم مشبّكون بين أصابعهم يصفرون فيه ويصفّقون[۷] . وكانوا يقولون كلمات الشرك حتى فى الطواف، فكانت تلبيتهم:
“لبّيك اللهم لبيك، لبيك لاشريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.”
وقد أخرج مسلم فى صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
“كان المشركون يقولون: لبيك لاشريك لك، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلكم! قدٍ قدٍ، فيقولون: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت[۸] .”
وكذلك السعى بين الصفا والمروة تلوث بعبادة الأصنام، فجعلوا على الصفا صنما اسمه “إساف” وعلى المروة آخر اسمه “نائلة”،وكانت قريش تُهلّ عند إساف، ويتمسحون بالصنمين ويستلمونها. ويُروى أن إسافا ونائلة كانا من جُرهم، ففجر إساف بنائلة فى الكعبة فمُسِخا حجرين، فوُضعا على الصفا والمروة ليُعتبر بهما، ثم عُبدا بعد[۹] .
ومن مناسك الحج الخروج إلى منى، والمبيت بها فى أيام النحر. وإن المشركين لم يتركوا هذاالمكان الشريف من مآثر الشرك. وقد أخرج الأزرقى عن محمد بن إسحق أن عمرو بن لُحىّ (وهو أول من اتخذالأصنام وسيّب السوائب) نصب بمنى سبعة أصنام، صنما على القرين، الذى بين مسجد منى و الجمرة الأولى، على بعض الطريق، ونصب على الجمرة الأولى صنما، وعلى المدعاء صنما، وعلى الجمرة الوسطى صنما، ونصب على شفير الوادى صنما فوق الجمرة العظمى، وعلى الجمرة العظمى صنما، وقسم عليهن حصى الجمار، إحدى وعشرين حصاة، يرمى كل صنم منها بثلاث حصيات، ويقال للوثن حين يرمى:
” أنت أكبر من فلان، للصنم الذي يُرمى قبله.”[۱۰]
ومن المناسك التى تؤدى بمنى النحر أوالذبح وحلق الرأس تقرّبا إلى الله تعالى، وإن المشركين جعلوه أيضا شعارا من شعائر الشرك، فكانوا ينحرون على الأنصاب، وعلى مقربة من الأصنام. وكذلك كانوا يحلقون رؤوسهم عند الأصنام[۱۱] . وإذا فرغوا من حجهم ذهبوا مرة أخرى إلى الأصنام[۱۲] الكبيرة التى أهلوا عندها. وروى الأزرقي عن محمد بن إسحق أنهم إذافرغوا من حجهم وطوافهم بالكعبة لم يَحِلّوا حتى يأتواالعُزّى فيطوفون بها ويحلّون عندها ويعكفون عندها يوما[۱۳] .
والحاصل أن حج أهل الجاهلية كان مغمورا بشعائر الوثنية فى كل مرحلة من مراحله، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذه الشعائر كلها، ودعاالناس إلى التوحيد الخالص من أي شائبة من شوائب الشرك وعبادة الأصنام، حتى فُتحت مكة واعتنق الإسلامَ خلق كثير، ولكن بقى كثير من المشركين على دينهم، ولم يُمنع المشركون من الحج إلى سنتين. فالحج الذى جاء بعد فتح مكة فورا اشترك فيه المؤمنون والمشركون معا، ويقول ابن إسحق رحمه الله تعالى:
“وحج الناس تلك السنة على ماكانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك السنة عتّاب بن أَسِيد رضى الله تعالى عنه، وهى سنة ثمان.”[۱٤]
فلم يكن الحج فى هذه السنة خاليا مما يفعله أهل الجاهلية من تقاليد الشرك والوثنية.
ثم جاءت سنة تسع، ويظهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أراد فى مبدأ الأمر أن يحج بالناس بنفسه هذه السنة، حتى فتلت أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله تعالى عنها قلائد هديه صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج البخاري حديثها قالت:
“فتلت قلائد هدى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلّدها-أوقلّدتها-ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة، فما حرُم عليه شيئ كان له حلّ.[۱۵]
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم غيّر رأيه فى الأخير، ولم يذهب للحج، وإنما بعث أبابكر الصديق رضى الله تعالى عنه أميرا للحج. ولعلّ السرّ فى عدم ذهابه صلى الله تعالى عليه وسلم أن الحج فى هذه السنة أيضا كان مختلطا بين المسلمين والمشركين الذين أدوا مناسكهم كما كانوا يؤدونها فى الجاهلية. يقول محمد بن إسحق رحمه الله تعالى:
“ثم بعث أبابكر أميرا على الحج من سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم.”[۱٦]
فشاء الله تعالى أن لايحج رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم حتى تتطهر مشاعر الحج من جميع أدران الشرك والوثنية، ويكون حجه صلى الله عليه وسلم مظهرا عمليا للتوحيد الخالص، ولا يشاركه فى ذلك أحد ممن يشوبه بشيئ من تقاليد الوثنية والجاهلية. فنزلت سورة البراءة قائلة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ . ]سورة البراءة 9:28[
وعملا بهذه الآية أعلن المؤذنون فى حج تلك السنة أنه لايُسمح لمشرك أن يحج بعد هذاالعام. يقول أبوهريرة رضى الله تعالى عنه:
“بعثنى أبوبكر فى تلك الحجة فى مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: ألاّ يحُجّ بعد هذاالعام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال حُميد بن عبد الرحمن: ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلىّ بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه وأمره أن يؤذّن ببراءة، وأن لايحُجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان[۱۷] .”
وبهذا هيّأ الله سبحانه وتعالى المُناخ الطيب لحج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى تكون حَجّته آية من آيات التوحيد خالصة عن جميع شوائب الشرك والوثنية.
فسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجّة الوداع حين انقشع عن مشاعرالحج ظلمات الشرك بأجمعها، فنوّرها بنور التوحيد وردها إلى ماكانت عليه من دين الفطرة، وأعلن لجميع الناس:
“كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام.”[۱۸]
وأعلن فى خطبته:
“أما بعدُ أيهاالناس! فإن الشيطان أيس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا.”[۱۹]
فكانت حجّة الوداع آية من آيات وحدانية الله سبحانه وتعالى، حيث تجلّت هذه العقيدة فى كل خطوة من خطوات المناسك من أولها إلى آخرها، والحمد لله تعالى.
ومن المؤسف أن عقيدة التوحيد التى هى ذروة سنام الإسلام، والتى لا يتصور الإسلام إلا بها، أصبح بعض المدعين للإسلام يتأولون فيها قريبا مما كان أهل الجاهلية يتأولون لشركهم. فهناك من يسجد على قبور بعض المشايخ ويطوف حولها زعما منه بأنهم يشفعونه عندالله تعالى أو يقربونه إليه زلفى، والعياذ بالله العلي العظيم. ونحن إذنتحدث عن عقيدة الوحدانية من خلال حجة الوداع يتحتم علينا أن نقوم بأداء رسالة التوحيد فى صورتها الصحيحة أمام الذين أخطأوا طريقها القويم بالوقوع فى مثل هذه الخرافات الضالة المضلة. والله سبحانه وتعالى هوالموفق.

وحدانية الدين الحق من خلال مناسك الحج
والعنصرالثانى الذى أحكمت حجّة الوداع معالمها هو توحيد مناسك الحج. فكان أهل الجاهلية لهم طرق مختلفة فى أداء المناسك، وكانت كل قبيلة من قبائلها تتخذ ما يعجبها من التقاليد عند أداءها. وهذاالاختلاف يبدأ من أمكنة إهلالهم وتلبيتهم ويمتد إلى مواضع الوقوف فى عرفة وغيرها، حتى أنه كانت هناك قبائل لاتعترف حرمة أو قدسية لمكة ومشاعرها، ولا للأشهرالحرم مثل خثعم وطيئ وأحياء من قضاعة ويشكر والحارث بن كعب [۲۰] وكانت لهم بيوت أخرى يعظمونها مثل مايعظم غيرهم الكعبة، مثل خثعم التى كانت تحج عندذى الخلصة، وتسميها الكعبة اليمانية، وهدمها جريربن عبدالله رضى الله عنه بأمررسول الله صلى الله عليه وسلم.[۲۱] أماالذين كانوا يقدسون مشاعر مكة فكانت كل قبيلة كبيرة منهم لها صنم تُهِلّ للحج من عندها، كماذكرنا فيما سبق. وكانت تلبية قريش ماذكرناه من قبل، وكان نسكهم لإساف. وذكر ابن حبيب تلبيات القبائل التى كانت تُهِلّ عند أصنام مختلفة، فبلغ عددها إحدى وعشرين تلبية، باختلاف الأصنام من إساف، والعزى، واللات، وجهار، وسواع، وشُمس، ومحرّق، وودّ، وذى الخَلَصة، ومنطبق، وعكّ، ومناة، وسعيدة، ويعوق، ويغوث، ونسر، وذى اللبا، ومرحب، وذريح، وذى الكفين، وهبل. كل هذه الأصنام كانت فى العرب، وكان لكل من ينسك عندها تلبية مختلفة من الآخر، سرد جميعها ابن حبيب فى أربع صفحات.[۲۲] وسرد اليعقوبي تلبيات قبائل مختلفة من قريش، وكنانة، وبنى أسد، وبنى تميم، وقيس عيلان، وثقيف، وهذيل، وربيعة، وحمير، وهمدان، والأزد، ومذحج، وكندة، وحضرموت، وغسّان، وبُجيلة، وقضاعة، وجذام، وعكّ. ومعظم التلبيات التى ذكرهااليعقوبي زائدة على ما ذكره ابن حبيب[۲۳] .
ثم كانت أحكام الإحرام مختلفة فيما بينهم، فمثلا: قبائل من الأزد لايحرّمون الصيد فى النسك، وبلبسون كل الثياب، ولا يدخلون من بيت ولا دار، ولا يؤويهم ماداموا محرمين، وكانوا يأكلون اللحم ويسلأون السمن، و يدّهنون ويتطيّبون. وأماالحُمس، وهم قريش وخزاعة وثقيف، والحارث بن كعب، وعامربن صعصعة، إذا نسكوا لم يسلأوا سمنا، ولم يدّخروالبنا، ولم يأكلوا لحما، ولم يدّهنوا، ولم يلبسوا فى حجهم وبرا ولا شعرا، ولم يمسّواالنساء والطيب، ولايطأون أرض المسجد تعظيما له[۲٤] .
وكان قريش ومن جاورالحرم من القبائل الذين مر ذكرهم يسمون أنفسهم حُمسا، ويتميزون عن غيرهم من العرب فى كثير من الأحكام، ويزعمون أن لهم فضلا على غيرهم من القبائل بسبب مجاورتهم للحرم. وكانوا يعتقدون أن الحُمس هم الذين يجوز لهم الطواف فى ثيابهم. أما غيرهم الذين يُسمَّون حِلّة، فلا يجوز لهم الطواف فى ثيابهم، لكونها وسخة بذنوبهم، فكانوا يستعيرون أو يستأجرون الثياب من أحد من الحُمس، فكأن الحُمس معصومون عن الذنوب. وأما إذا لم يجدوا أحدا من الحُمس يُعيرهم أويؤجرهم ثوبه طافوا عُراة.[۲۵] وفى هذا نزل قول الله سبحانه وتعالى:
﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾
[سورة الأعراف:31]
وكان الحُمس يضربون فى منى قبابا حُمرا من الأدم، لايجوز لغيرهم أن يضرب مثلها.[۲٦] وأما غيرهم من الحِلّة، فتكون قبابهم عادية من الشعر أوالوبر.
وأما الوقوف يوم عرفة، فالحِلّة كانوا يقفون بعرفة، والحُمس يزعمون أنفسهم مُلازِمى الحرم، وكانت عرفة خارج الحرم، فكانوا لايخرجون إليها،ولا يقفون مع العامة بعرفة، وإنما يقفون داخل الحرم بالمزدلفة. واشتهر هذاالأمر فيمابين العرب، فأبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجّة الوداع، فجعل عرفة موقفا لجميع الحجاج من جميع القبائل. ويقول جبيربن مطعم رضى الله عنه:
“أضللت بعيرا فذهبت أطلبه يوم عرفة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة فقلت: “هذا واللهِ من الحُمس، فما شأنه ههنا؟”[۲۷]
وإنمااستغرب جبيربن مطعم رضى الله عنه وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة لأنه كان لايعلم إذذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل عادة الجاهلية فى ذلك.
والحاصل أن مناسك الحج لم تكن على نسق واحد فى الجاهلية، فكانت القبائل المختلفة اخترعت تقاليد مختلفة ماأنزل الله لها من سلطان. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ الناس إلى أصل الدين القويم، ووحّد المناسك لجميع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، فأصبحت حجّة الوداع أول حجة بعد هذه التحريفات اتحد فيهاالمناسك لجميع الناس، وصارت مظهرا جميلا لوحدانية الدين القويم كما صارت شعارا لوحدانية الله تعالى، حتى أنزل الله سبحانه فى القرآن الكريم ما جعلت هذه الحَجّة نُقطة كمال لهذاالدين الحنيف. قال تعالى:
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [سورة المائدة: 3]
وروى عن طارق بن شهاب قال:
“إن أناسا من اليهود قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر: أيّة آية؟ فقالوا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ فقال عمر: ” إنى لأعلم أيّ مكان أُنزلت. أُنزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة.”[۲۸]
وحدانية الأمة
والعنصرالثالث من الوحدانية التى أحكمتها حجة الوداع هى وحدة الأمة الإسلامية. فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الوحدة بقوله، وأحكم معالمها بفعله. فقال فى خطبته فى حجّة الوداع:
“كل مسلم أخ للمسلم، وإن المسلمين إخوة.[۲۹] ” وقال: ” يا أيها الناس! إن ربّكم واحد، وإن أباكم واحد. ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا أسود على أحمر، ولاأحمر على أسود إلاّ بالتقوى.”[۳۰]
وقال صلى الله عليه وسلم:
“فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا. ليبلّغ الشاهد الغائب.”[۳۱]
وأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذه الحَجّة معالم التفاخر بالآباء والأنساب، فجعل الأمة كلها متساوية فى أداء المناسك لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وكان الحُمس يتفاخرون بأنسابهم وكونهم من أهل الحرم، فيرون لأنفسهم فضيلة على غيرهم، فيجعلون قبابهم فى منى وموقفهم يوم عرفة متميزا عن غيرهم، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كما مر، وجعل الحجاج كلهم على قدم المساواة فى جميع المشاعر والمناسك، لافضل لأحدهم على الآخر، وصارالمسلمون منذذلك اليوم يجتمعون فى الحج فى لباس واحد، وبتلبية واحدة، وبنسك واحد، لافرق بين غنيّهم وفقيرهم، ولابين أميرهم ومأمورهم، يبتهل جميعهم إلى الله تعالى بدعوة واحدة، وبتكبيرواحد وتهليل واحد، و بحمد وثناء كله خالص لله الواحد القهار الذى لاإله غيره.
ثمّ لم يرض صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون لنفسه فى أداء مناسك الحج أى نوع من أنواع الامتياز بإزاء عامة الحجّاج، مع أنه كان جديرا بذلك حقا، لأن فضله صلى الله عليه وسلم لم يكن لنسبه فقط، وإنما لكونه أفضل الرسل وخاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، ولكونه أعلم الناس وأبرّهم وأتقاهم. ولكنه لم يقبل أن يتميز عن عامة المسلمين فى أداء نسكه وفى سفره وإقامته. فأدى جميع المناسك بنفسه دون أن يستخدم أحدا فى مهمات السفر، وذبح ثلاثا وعشرين بدنة بيده الشريفة، وأقام حيث يقيم عامة الناس، وسار معهم حيث يسيرون، ووقف معهم حيث يقفون. وحين اقترحت أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى منىً بناء متميز، لم يقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآثر أن يكون على قدم المساواة مع الحجاج الآخرين. روى أصحاب السنن بطرق مختلفة عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضى الله تعالى عنها قالت:
“قلت: يارسول الله! ألا نبنى لك بمنىً بيتا أو بناء يُظلك من الشمس؟ قال: لا، إنما هومُناخ من سبق إليه.”[۳۲]
حتى أنه لم يرض بأن تكون له خصوصية فى شرب ماء زمزم ويأتى به أحد من حيث لا يشرب منه عامة الناس،فقد أخرج البخاري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس رضى الله تعالى عنهما قال:
“إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية (يعنى سقاية زمزم) فاستسقى، فقال العباس: يا فضل! اذهب إلى أمّك فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها، فقال (رسول الله صلى الله عليه وسلم:)اسقنى، قال: يارسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقنى. فشرب منه، ثمّ أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح. ثم قال: لولا أن تُغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعنى عاتقه[۳۳] ، وأشار إلى عاتقه.”
فانظر كيف رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يوهم إيثاره على عامة الناس، بالرغم من منزلته السامية التى لامنزلة أسمى منها، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، وذلك ليكون دأبه صلى الله عليه وسلم تفسيرا عمليّا لما مهّده من أصل الوحدة الإسلامية، وليقتدى بذلك كل من بعده.
وهكذا، فكانت حجّة الوداع من أسمى آيات التوحيد أحكمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله، وحركاته وسكناته، ومسيره وإقامته، وعباداته ومعاشرته، لنعقد قلوبنا على أن إلهنا واحد، وديننا واحد، وقبلتنا واحدة، وكتابنا واحد، وأمتنا واحدة. فتتلخص رسالة حجة الوداع فى قول الله سبحانه وتعالى:
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.﴾
]سورة الأنعام: 153[
وهذه هى الوحدانية التى نتعلمها من خلال حجّة الوداع على صاحبها الصلاة والسلام بعدد من حجّ إلى الأبد واعتمر، أوصلى وصام. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.