سماحة الأحكام الشرعية

بحث مقدم إلى مؤتمر رابطة العالم الإسلامي فى الدورة الثالثة بمكّة المكرّمة 2-4 فبراير سنة 2003م.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا ومولانا محمّد النّبيّ الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وعلى كل من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.
أمّا بعد:
فإن هذا البحثَ المتواضِعَ يَهدِف إلى بيان سماحة الأحكام الشرعية فى علاقة المسلمين بغيرهم، وخاصة فيما يتعلّق بالعَلاقات الدُّوَليّة.
لا شكّ أنّ الإسلام يدعو الإنسانيّة كلَّها إلى الإيمان بالله تعالى وحده، بجميع أنبيائه ورُسُلِه، وباليوم الآخر، وإلى العمل بشريعة الله فى جميع شئون الحياة، ولكنّه لايفعل ذلك عن طريق الإكراه والتجبُّر، وإنّما يفعل ذلك عن طريق الدّعوة والأساليب العلميّة من إقامة الدّليل وإنارة الحُجَجِ، وإزاحةِ الشُّبهاتِ، حتّى يتبيّن الحقُّ لمن أراد أن يَطلُبَه. يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿لَا إِكْرَاهَ فى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيم﴾ [البقرة: 256]
وكذلك لا شكّ أنّ الإسلام يفرِّق بين الإيمان والكفر من حيث إنّ الإيمانَ مجلبةٌ لرحمة الله تعالى ورِضوانِه ومَثُوبته الَّتِى أعدَّها اللهُ سبحانه وتعالى للمؤمنين من عباده فى الحياة الأُخرَوِيّة الأبديّة، والكفر مجلبة لسخط الله تعالى وعذابِه فى الآخرة، وحيث إنّ الإيمان حبيبٌ والكفرَ بغيضٌ، فمن الطّبِيعِيّ أن لا يكون المؤمنُ وغيرُ المؤمن سواءً عند الله تعالى، ولا أن يتّخِذَ المؤمِنُ وَلِيّاً من غير المؤمنين، قال الله سبحانه وتعالى:
﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾
[آل عمران: 28]
وقال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين﴾ [النساء: 144]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾
[المائدة: 51]
ولكن البغيض إنّما هو الكُفرُ أو عدمُ الإيمان، والأعمالُ الّتى تُنَافِى مقتضاه، وليس الكُفّارُ أو غيرُ المسلمين من حيث ذواتُهم، ولو كان البُغضُ لذواتهم لما وُجِّهَت الدّعوةُ إليهم، ولَمَا حاول المسلمون لإصلاح عقيدتهم ولصيانتهم من عذاب الله تعالى، كما أنّ اليَهُودَ يُبغِضون غيرَهم لذواتِهم، فلايسعَونَ فى دعوة النّاسِ إلى دينهم. ولذلك، بالرّغم من عدم الموالاة بين المسلمين وغيرِهم، فإنّ الإسلامَ لم يَمْنَعْ من التّعامُل معهم على أساس الإنسانيّة إذا كان مبنِيّاً على العدل، والمُواساة، والتّعاوُن على الخير ودفع الشّرّ والظُّلم، والبِرّ والصِّلة. بل إنّ الإسلامَ يأمر المسلمين بالتّعايُش معهم على أساسِ احترامِ حقوق الإنسانيّة الّتى لا فرقَ فيها بين المسلِم وغيره، فما أَباحَ الإسلام لِمُسلمٍ أن يَتَعَرّضَ لغير المسلم بالإيذاء فى غير حالةِ الحَرْبِ، سواءٌ كان الإيذاءُ بَدَنِيّاً أو نَفْسِيّا، حتّى ذَكَرَ فقهاؤُنا رحمهم الله تعالى:
“لو قال ليهوديٍّ أو مجوسيٍّ: يا كافرُ، يأثم، إن شقّ عليه.” [۱]
التّعامُل مع أهل الذّمّة
فأمّا أهلُ الذّمّة من غير المسلمين الّذين يسكنون فى البلاد الإسلاميّة بعهدٍ وأمانٍ، فإنّ الإسلام يَعتَرِفُ بحقوقهم الإنسانيّة والمَدَنِيّة بحيث لايَبقَى بينهم وبين المسلمين فى ذلك فرقٌ، إلّا فيما يُخِلُّ بتنفيذ شريعة الله تعالى فى الأرض. وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
“من قَتَلَ مُعَاهداً لم يَرَحْ رائحة الجنّة، وإنّ ريحَها يوجد من مسيرة أربعين عاما.” [۲]
وقال صلى الله عليه وسلم:
“من قتل معاهدا فى غير كُنهِه حرّم اللهُ عليه الجنّة.” [۳]
قال ابنُ الأثير الجزريّ:
“كُنه الأمر: وقتُه وحقيقتُه، والمراد به هنا، الوقت.” [٤]
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
“من قتل نفسا معاهدة له ذمّةُ الله وذِمّةُ رسولِه، فقد أَخْفَرَ بذمّة الله، فلا يَرَحْ رائحة الجنّة، وإنّ ريحّها ليُوجَد من مسيرةِ سبعين خَرِيفًا.” [۵]
وقد رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:
“ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقتِه، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ، فأنا حَجِيجُه يوم القيامة.” [٦]
كما روي عنه صلى الله عليه وسلم حديثٌ آخرُ:
“من آذى ذمّيّاً فأنا خصمُه، ومن كنتُ خصمَه خَصَمْتُه يوم القيامة.” [۷]
وقد ذكر الكاساني حديثاً نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال:
“فإن قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.” [۸]
وهذا الحديث، وإن لم أكن وجدتُه فى كُتُبِ السُّنّة المعروفة، لكن معناه صحيحٌ معتبرٌ فى الشّرع عند الفقهاء كما سيأتي.
وكان من اهتمام الخُلفاءِ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفاظ على حقوق المسلمين من أهل الذّمّة أنّ سيِّدَنا عمرَ بنَ الخَطّاب رضي الله عنه كان يتفقّدُ أحوالَهم ويتأكّدُ من أنّ المسلمين لا يُصِيبُونهم بأَذًى. فقد رَوَى الطّبريُّ رحمه الله أنّه قال لوفد البصرة:
“لعلّ المسلمين يُفضُون إلى أهل الذّمّة بأَذًى؟” فقالوا: “لا نعلم إلا وفاءً”. [۹]
وكان الوفاءُ بحقوقِ أهل الذّمّة من أكبر همومه رضي الله عنه قُبَيل وفاته، فالوصيّة الّتى أوصَى بها رضي الله عنه الخليفةَ من بعده لم تغفل، على وجازتها، من التّأكيد على ذلك، فكان من جملة وَصِيّتِه أن قال:
“وأُوصيه بذمّة الله وذمّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يوفِيَ لهم بعهدهم، وأن يُقاتِل من ورائهم، ولا يكلَّفُوا إلّا طاقتَهم.” [۱۰]
وقد رُوِيَ عن سيّدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال:
“إنّما قَبِلُوا عقد الذّمّة لتكون أموالُهم كأموالنا، ودماؤُهم كدمائِنا.” [۱۱]
وبناء على هذه المبادئ، فإنّ فقهاءَ المسلمين صرّحُوا بأنّ على المسلمين دفعَ الظُّلم عن أهل الذّمّة والمحافظةَ عليهم. يقول الإمام محمّد بن الحسن الشيبانيّ رحمه الله تعالى:
“لأنّ المسلمين حين أعطَوهم الذِّمّةَ فقد التزموا دَفْعَ الظُّلم عنهم، وهم صاروا من أهل دار الإسلام”. [۱۲]
وما زال فقهاءُ المسلمين يؤكّدُون على الحُكّام أن يُحسِنُوا التّعامُلَ معهم ويتفقّدُوا أحوالَهم، فهذا الإمام أبو يوسف رحمه الله تعالى يُوصِى هارون الرّشيد، فيقول فى غير المسلمين من أهل الذّمّة:
“وقد ينبغى يا أمير المؤمنين أَيَّدَك الله أن تتقدَّمَ بالرِّفق بأهل ذمّة نبيّك وابن عمّك محمّد صلى الله عليه وسلّم، والتّفقُّدَ لهم حتّى لايُظلَمُوا، ولا يُؤْذَوا، ولايُكَلَّفُوا فوق طاقَتِهِم.” [۱۳]
وهذا الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى، بلغه أنّ بعضَ أهل الذِّمّة من سُكّان جبل لبنان خرجوا من طاعة الأمير وأحدثوا أحداثاً، وعلى الشّام يومئذ صالحُ بنُ عليّ، أحدُ قُوّاد الدّولة العبّاسيّة، فحارب جميعَ أهل الذِّمّة فى جبل لبنان وأجلاهم، فكتب (الإمام الأوزاعي رحمه الله) إلى صالح بن عليّ رسالةً طويلةً يلومُه فيها على ما فعل، ومما كتب إليه ما نصُّه:
“وقد كان من إجلاء أهل الذِّمّة من أهل جبل لبنان، ممّا لم يكن تمالأ عليه خروج من خرج منهم، ولم تطبق عليه جماعتهم، فقتل منهم طائفة ورجع بقيتهم إلى قراهم، فكيف تُؤخَذ عامّةٌ بعمل خاصّةٍ؟ فيُخرَجُون من ديارهم وأموالهم؟ وقد بَلَغَنا أنّ من حُكمِ الله عزّ وجلّ أن لا يأخذ العامّة بعَمَلِ الخاصّة… من كانت له حُرمةٌ فى دمه فله فى ماله والعدل عليه مثلُها، فإنّهم ليسوا بعبيد فتكونوا من تحويلهم من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ فى سَعَةٍ، ولكنّهم أحرارٌ.” [۱٤]
وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلَّام رحمه الله تعالى أمثِلَةً كثيرةً تَدُلُّ على احتياط المسلمين فى أمر غير المسلمين من أهل الذّمّة، والتّورُّع فى الانتفاع بأموالهم، ولو كانت من الأشياء الّتى يُعرَف فيها التَّوَسُّعُ من أصحابِها، وننقل هنا بعضَها:
(١) عن أبى أُمامة عن ابن عبّاس “أنّ رجلاً سأله، فقال: إنّا نَمُرُّ بأهل الذّمّة، فنُصيبُ مِنَ الشّعر [۱۵]، أو الشّيء؟ فقال ابنُ عبّاس: لا يحلّ لكم من ذِمَّتِكم إلّا ما صالحتُموهم عليه.”
(٢) عن صعصعة قال: سألتُ ابنَ عبّاسٍ، فقلتُ: إنّا نسير فى أرض أهل الذِّمّة فنصيب منهم؟ فقال: بغير ثَمَنٍ؟ قلتُ: بغير ثَمَنٍ، قال: فما تقولون؟ قلتُ: نقول حلالاً لا بأس به. فقال: أنتم تقولون كما قال أهلُ الكتاب: “ليس علينا فى الأمّيّين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.”
(٣) عن طلحة بن مصرف قال: قال خالدُ بنُ الوليد: “لا تمشِ ثلاثَ خُطى لتأمر على ثلاثةِ نَفَرٍ، ولا ترزأ [۱٦] معاهدا إبرة فما فوقها، ولا لتبغي إمام المسلمين غائلة.”
(٤) عن يحيى بن أبي كثير، قال حدّثنى أبو عبد الله، مولى سعد، أوقال أبو عبد الرحمن، شكّ أبو عبيد، قال: كنتُ مع سعدٍ فأجنّنا اللّيلُ إلى حائطٍ، وفى غير هذا الحديث: إلى حائط رجلٍ من أهلِ الذِّمّة. فطلبنا صاحبَه، فلم نجده، فقال سعدٌ: إن سرّك أن تَلقَى اللهَ غداً مسلِماً فلا تَرزَأَنَّ منه شيئاً. قال فبِتنا طاويَيْنِ، حتَّى أصبَحْنا.
(٥) عن الوليد بن مسلم حدّثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: كان أبو الدّرداء ينزل القَريةَ من قُرَى أهلِ الذِّمّة، فلا يزيد على أن يشرب من مائِهم، ويستَظِلّ بِظِلِّهِم، وترعَى دابّتُه من مراعيهم، فيأمر لهم بالشّيء أو بالأفلس.
(٦) قال الوليد: وحدّثني عثمانُ بن أبي العاتكة: أنّ عبادة بن الصّامت مرّ بقَرْيَةٍ، يُقالُ لها: دمر، من قُرَى الغوطة، فأمر غلامَه أن يقطع له سواكاً من صفصاف على نهر بردي، فمضى ليفعل، ثم قال له: ارجِعْ فإنّه إلّا يكنْ بِثَمَنٍ فإنّه سيَيْبَس فيعود حَطَباً بِثَمَنٍ.
(٧) قال الوليد: وحدّثنا الأوزاعيُّ أنّ أباهريرة قال لرجلٍ يريد الغزو: “لا تَطَأْ حرثاً ولا تطلع شرفاً إلا بإذن إمامك، وإيّاك والمخلاة والمخلاتين من أموال أهل الذِّمّة، ثم تقول: “أنا غازٍ” قال: ثم لَقِيَ الرّجل ابنَ عبّاسٍ، فقال له مثلَ ذلك.
(٨) عن الوليد بن مسلم عن خالد بن يزيد بن مالك عن أبيه قال: كان المسلمون بالجابية، وفيهم عمر بن الخطاب، فأتاه رجل من أهل الذِّمّة يخبره: أنّ النّاس قد أسرعوا فى عنبه، فخرج عُمَرُ حتَّى لَقِيَ رجلاً من أصحابه يحمل تُرساً عليه عِنَبٌ، فقال له عمرُ: وأنت أيضاً؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين أصابَتْنا مجاعةٌ، فانصرف عمرُ، فأَمَرَ لصاحب الكرم بقيمة عِنَبِه. [۱۷]
ومرّ سيّدُنا عمرُ رضي الله عنه بشيخٍ كبيرٍ يهوديٍّ يسأل النّاسَ، فأخذ بيده إلى منزله، فرضخ له من المنزل بِشَيْءٍ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: انظر هذا وضُرَبَاءَه، فوالله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبتَه ثم نخذله عند الهرم، إنّما الصّدقاتُ للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وضربائه. [۱۸]
وأما غير المسلمين من الدُّوَلِ الأُخرَى، فإنّ العَلاقاتِ معهم تَختَلِفُ فى حالَتَيِ السِّلْم والحرب.
العَلاقات مع الدُّوَل غيرِ المسلِمةِ فى حالة السِّلم
المسالمة والمصالحة مع الدُّول غير المسلمة مشروعٌ بِنَصِّ القرآن إن كان لايتعارض مع مصلحةِ المسلمين، قال الله سبحانه وتعالى:
﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: 61]
وإنّ العَلَاقاتِ فى هذه الحالةِ مبنِيَّةٌ على أساس العدل، والمواساة، والتّعاوُن على الخير ودَفْعِ الشّرّ.
(١) العدل:
أمّا العدل، فهو مطلوبٌ من كلِّ مُسلِمٍ فى جميع الحالات. قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]
وفي موضعٍ آخر من القرآن الكريم جاء التّنبيهُ على أنّ البُغضَ والعداوةَ مع قومٍ لا ينبغى أن يَحمِلَ المسلِمَ على التّعامُلِ معه بخلاف العدل. قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]
وإنّ الله سبحانه وتعالى أكّد بصفةٍ خاصّةٍ أنّ القِيَامَ بالعدل والقِسط يجبُ على المسلم حتّى فى التّعامُلِ مع غير المسلمين الّذين اعْتَدَوْا عليهم، قال:
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ [المائدة: 2]
وإن هذه الآية الكريمة منعت المسلمين من الاعتداء على الكُفّار الّذين كانوا اعْتَدَوْا عليهم بِصَدِّهِم عن المسجد الحرام وأداء العمرة فيه، ولكن بعد ما وقع الصُّلح معهم بالحُدَيْبِيَّةِ مُنِعَ المسلمون من التَّعَرُّض لهم بالإيذاء، رغم أنّ اعْتِدَائَهم على المسلمين قبل ذلك كان أضعافَ ما أراده الصّحابةُ رضي الله عنهم أن يفعلوا بهم.
ومن جملة إقامة العدل فى التّعامُل مع غير المسلمين الوَفاءُ بالعهدِ والالتزام بشروط المصالحة. قال الله سبحانه وتعالى:
﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]
وقد وردت فى وجوب الوفاء بالعهد آياتٌ كثيرةٌ من القرآن الكريم وعددٌ كبيرٌ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّ هذه الأحكامَ لم تَكُن مُودَعَةً فى أوراق الكُتُبِ فقط، وإنّما تَرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم والمسلمون مِن بعدِهم فى ذلك أَمْثِلَةً نَيِّرَةً لاتكاد توجد فى مِلَّةٍ من المِلَلِ الأُخرَى.
وإنّ حُذيفةَ بنَ اليمان رضي الله عنهما خَرَجَ مع أبيه إلى المدينة لزيارة النّبِيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فأخذهما كُفّارُ قُرَيْشٍ، ولم يتركوهما حتَّى أخذوا منهما الميثاقَ أنّهما ينصرفان إلى المدينة ولايُقاتِلان مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فأتيا إلى المدينة وغزوة بدرٍ جاهزةٌ، وأرادا أن يَغْزُوَا مع النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
“انصرفا، نفى لهم بعهدهم، ونستعينُ اللهَ عليهم.” [۱۹]
وإنّ غزوةَ بدرٍ كانت من الغَزوات الّتى كان فيها المسلمون أحوجَ ما كانوا إلى تكثير عددهم وعدتهم، وكانت المشاركةُ فى هذه الغزوة أعظمَ شَرَفٍ حصل للصّحابة رضي الله عنهم بعد الإيمان، وفي جانبٍ آخَرَ، إن المشركين ما أخذوا الميثاق من حذيفة وأبيه رضي الله عنهما إلّا تحت غرار السيف، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي بحرمانهم عن فضيلة المشاركة فى الغزوة، ولم يرض بأن ينسب إلى أحد من أصحابه أنّه نقض العهد مع المشركين.
وعن سليم بن عامرٍ قال: “كان بين معاويةَ وبين الرّوم عهدٌ، وكان يسير نحوَ بلادِهم، حتَّى إذا انقضى العهدُ غزاهم، فجاء رجل على فَرَسٍ أو بِرْذَوْنٍ وهو يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمروبن عبسة، فأرسل إليه معاويةُ، فسأله، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: “من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ، فلا يَشُدَّ عُقْدَةً ولا يَحُلَّها حتَّى ينقضِيَ أَمَدُها، أو يَنْبُذَ إليهم على سواءٍ.” فرجع معاوية رضي الله عنه. [۲۰]
وإنّ معاويةَ رضي الله عنه لم يَبْدَأْ بالقتال قبل أن يَنقضِيَ أَمَدُ العهد، وإنّمَا كان يسير نحوَ بلاد العَدُوِّ فى تلك المُدَّة، ثمّ غزاهم بعد انقضاء العهد، ولكن سمّاه عمرُو بنُ عبسة رضي الله عنه غدراً. قال الإمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى:
“ويُشبِهُ أن يكون عمرٌو إنّما كَرِهَ مسيرةَ معاويةَ إلى ما يتاخم بلادَ العَدُوّ، والإقامةَ بقُربِ دارِهِم من أجل أنّه إذا هادنهم إلى مُدّةٍ، وهو مُقِيمٌ فى وطنه، فقد صارت مدّةُ مسيره بعد انقضاء المُدّة كالمشروط مع المُدّة المضروبة فى أن لا يَغْزُوَهم فيها، فيأمنونه على أنفسهم، فإذا كان مسيرُه إليهم فى أيّام الهدنة حتَّى يُنِيخَ بقرب دارهم كان إيقاعُه بهم قبل الوقت الّذى يتوقَّعُونه، فكان ذلك داخلاً عند عمرو فى معنى الغدر. [۲۱]
وقال الإمام أبو عبيد رحمه الله:
“قال يزيد: لم يُرِد معاويةُ أن يُغِيرَ عليهم قبل انقضاء المُدّةِ، ولكنّه أراد أن تَنْقَضِيَ وهو فى بلادهم، فيغيرهم عليهم وهم غارّون، فأنكر ذلك عمرُو بنُ عبسة إلّا أن لا يدخل بلادهم حتَّى يُعلِمَهم ويُخبِرَهم أنّه يريد غَزْوَهم. [۲۲]
وما فعله معاويةُ رضي الله عنه لاتَكادُ تَجِدُ له نظيراً فى تاريخ الحروب بين الشّعوب، حيث إنّه أبطل كُلَّ ما خطَّطَه تِجاهَ العَدُوِّ من مُفَاجَأَتِهِم بالغزو بعد مُضِيِّ الأَمَد، ورجع من بلاده بعد ما دخل فيها وتَسَيْطَرَ على بعض أراضيها. وما ذلك إلا للملاحظةِ الدّقيقةِ الّتى أبداها عمرُو بنُ عبسة رضي الله عنه، والّتي لا تتجاوز من أن تكون وَرَعاً واحتياطاً، وإلّا فإنّ المسيرَ نحو بلادِ العَدُوِّ فى أيّام الهدنة ليس مُنَاقِضاً للعهد، ما دام المسيرُ فى أرض المسلمين، دون الدُّخول فى أرض العدوّ، ومع ذلك تنازل سيَّدُنا معاويةُ رضي الله عنه عن الغزو فى تلك الآونة الذتي كانت أرجى للفتح والغَلَبَة على العَدُوّ.
وإنّ العهدَ الّذى احترمه رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقتصر على العهدِ الصّريحِ الملفوظ، وإنّما يشمَلُ العهدَ الّذى لم يُعقَد مع العَدُوّ صراحةً، ولكنّه ملحوظٌ إما بحُكمِ العُرف، أو بحكم الاقتضاء أيضاً.
ومن ذلك قِصّةُ أبي رافعٍ رضي الله عنه -مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم- وكان أيّامَ كُفره أرسله قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برِسالةٍ، فجاء بها إليه عليه الصّلاة والسّلام، فيحكى القِصّةَ قائلاً:
“بعثتني قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلمّا رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه سلّم، أُلقِيَ فى قلبي الإسلامُ، فقلت: يا رسول الله! إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي لا أخيس بالعهد، ولا أحبِسُ البُرُدَ، ولكن ارجع، فإن كان فى نفسك الّذى فى نفسك الآن فارجع. قال: فذهبت، ثمّ أتيتُ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ.” [۲۳]
فلم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقاء أبي رافع معه مسلما، وقد بعثه أعداؤُه رسولاً وبَرِيداً، لأنّهم كانوا ينتظرون رُجوعَه. يقول الإمام الخطّابيّ رحمه الله تعالى:
“قوله: “لا أحبس البرد” فقد يُشبِهُ أن يكون المعنى فى ذلك أنّ الرّسالةَ تقتضي جواباً، والجوابُ لا يصل إلى المُرسِلِ إلّا على لسان الرّسول بعد انصرافه، فصار كأنّه عَقَدَ له العَهْدَ مُدّةَ مجيئِه ورُجوعِه. والله أعلم”. [۲٤]
فانظر إلى هذه الدِّقّة والاحتياط فى التّحرُّز من الغدر أو الغشّ مع غير المسلمين فى حالة السِّلم.
(٢) المُوَاسَاة:
ولا يَقْتَصِرُ تعامُلُ المسلمين مع غيرهم فى حالة الأمن على إقامة العدل والوفاء بالعهد، وإنما يَبْلُغُ إلى حدّ المُوَاساة والإحسان. قال الله سبحانه وتعالى:
﴿لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]
ومن ذلك ما رُوِي فى الأحاديث الصّحيحةِ أنّ المشركين من أهل مكة أصابهم قحطٌ شديدٌ أكلوا فيه العِظامَ والجلودَ، فجاء أبو سفيان، وهو كافِرٌ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “أي محمّد! إنّ قومَك هلكوا، فادعُ اللهَ أن يكشِفَ عنهم” فاستسقى لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فنزل عليهم المَطَرُ وانكشف بلاءُ القحط. [۲۵]
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت:
قَدِمَت أُمّي وهي مشركةٌ فى عهد قريش ومُدّتِهم إذا عاهدوا النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم مع أبيها، فاستفتيتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلتُ: إنّ أُمّي قَدِمَت وهي راغِبَةٌ. قال: نعم، صِلِي أُمَّكِ. [۲٦]
وقال الإمام محمّد بنُ الحسن الشّيبانيّ رحمه الله تعالى فى السِّيَرِ الكبير:
“عن ابن مروان الخزاعيّ قال: قلتُ لمجاهدٍ: رجلٌ من أهل الشِّرك بيني وبينه قَرَابةٌ، ولي عليه مالٌ، أدعه له؟ قال: نعم وصِلْه. وبِهِ نأخذ، فنقول: لا بأسَ بأن يَصِل المسلمُ الرَّجُلَ المشركَ قريباً كان أو بعيداً، محارِباً كان أو ذِمِّيّاً، لحديث سَلَمَةَ بنِ الأكوَع قال: صلّيتُ الصُّبحَ مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ مسَّ كَفِّ بين كَتِفَيَّ، فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: هل أنتَ وَاهِبٌ لي ابنةَ أُمّ قرفة؟ قلت: نعم، فوهبتُها له، فبعث بها إلى خاله حزن بن أبي وهب وهو مشرِكٌ، وهي مشركة. وبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم خمسَ مِائةِ دينارٍ إلى مكّةَ حين قُحِطوا، وأَمَرَ بدفع ذلك إلى أبي سفيانَ بنِ حَربٍ وصفوانَ بنِ أُمَيّةَ ليُفَرِّقَا على فُقَرَاءِ أهلِ مَكَّةَ، فَقَبِلَ ذلك أبو سفيان، وأبَى صفوانُ. وقال: ما يريد مُحمّدٌ بهذا إلّا أن يَخدَعَ شُبَّانَنَا.” [۲۷]
وأمثلة ذلك كثيرة فى التأريخ الإسلامي لا نريد استقصاء ها، وفيما ذكرنا دليل على أن المسلمين لم يحملهم بغض الكفر والشرك على ترك الصلة والمواساة إلى غير المسلمين، بل اعتقدوا ذلك من مكارم الأخلاق الّتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لإتمامها.
(٣) التَّعاوُن على الخير:
وكذلك لم يَحمِلْهُم بُغضُ الكفر على أن يكفّوا أيدِيَهم من إحداث التّعاوُن مع غير المسلمين فى إقامة العدل، ودفعِ الظُّلم والشّرِّ، وإعانةِ الضُّعَفاءِ والملهوفين. وإنّ الأمرّ بالتّعاوُن على البِرّ والتّقوَى الّذى جاء به القرآنُ الكريم كمبدأٍ من مبادئ الشّريعة الإسلاميّة، إنّما ورد فى سياق عدم الاعتداء على الكُفّار. قال الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2]
وسبب نزول هذه الآية، كما ذكره المفسّرون، أنّ الصحابةَ لما منعهم المشركون من أداء العمرة عام الحديبية، فإن بعضهم أراد أن ينتقم من المشركين بمنعه إيّاهم من أداء المناسك فى أيّامِ الصُّلح، فنزلت هذه الآيةُ لمنعهم من ذلك. وهذا يَدُلُّ على أنّ التّعاوُنَ المذكورَ فى هذه الآية يشمل التَّعَاوُنَ مع غير المسلمين، بل هو نازِلٌ فى سياق ذكر المشركين.
فإن كان لدى غير المسلمين خُطّةٌ لنفع الإنسانيّة وليس فيها ما يُعارِضُ الشّريعةَ الغَرَّاءَ، فإنّ المسلمين يُستَحسنُ لهم الدّخولُ فى تلك الخُطّةِ، والتّعاوُنُ مع غير المسلمين فى ذلك، وقد قرّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم هذا المبدَأَ بالمُشارَكَةِ فى حِلْف الفُضُول.
وإنّ حِلفَ الفُضُول مفخرةٌ عظيمةٌ لبني هاشم، فإنّ العرب كانوا قبل ذلك يبنون تَعَاوُنَهم على أساس التّعصُّب والعُنْصُرِيّة، ويتحالفون مع القبائل على أن يُعينُوهم بِغَضِّ النَّظَرِ عن كونهم على حقٍّ أو باطلٍ. وإنّ حِلفَ الفُضول كان أوّلَ ميثاقٍ تحالف به العربُ على أساس العدل ونُصرةِ المظلوم، فاجتمعت بنو هاشم وزهرةُ وتيم فى دار عبد الله بن جدعان على دعوة من الزُّبَير بنِ عبدِ المطَّلِب عمِّ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك ابنَ عشرين سنةً. فتعاقدوا وتعاهدوا بالله: “لنكوننّ مع المظلوم حتَّى يُؤَدَّى إليه حقُّه ما بلَّ بحرٌ صُوفةً وفى التّآسى فى المعاش.”
ورُوِيَ عن جُبَيرِ بنِ مُطعم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“ما أُحِبُّ أنّ لى بحِلفٍ حضرتُه بدار ابن جُدعان حُمرَ النَّعم وأنّى أغدِر به، هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بلّ بحرٌ صُوفَةً، ولو دُعِيتُ به لأجبتُ”. [۲۸]
وأخرجه الحُميديّ رحمه الله عن محمّد وعبدِ الرحمن ابنَيْ أبِى بكر رضي الله عنهما، قالا: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:
“لقد شهدتُ فى دار عبدِ اللهِ بن جُدعان حِلفًا لو دُعِيتُ به فى الإسلام لأجبتُ، تحالفوا أن يردُّوا الفضول على أهلها، وألا يعز ظالمٌ مظلوماً”. [۲۹]
وأخرجه الحاكمُ عن عبد الرّحمن بنِ عوفٍ رضي الله عنه بلفظِ:
شهدتُ غلاماً مع عمومتي حِلف المطيبين، فما يسرنى أنّ لى حُمر النَّعَم أنِّى أنكثه.” [۳۰]
وذكر الحافظُ ابنُ كثيرٍ رحمه الله تعالى أنّ المراد من “حلف المُطيّبين” هنا: “حلف الفضول” فإن حلف المُطيّبين المعروف كان قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. [۳۱]
وعلى كُلٍّ، فإنّ شُهودَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم حِلف الفضول وإقرارَه بعد ظهور الإسلام ثابتٌ برواياتٍ كثيرةٍ صحيحةٍ. ويقول العلّامةُ السُّهَيلِيُّ رحمه الله تعالى:
“وكان حِلفُ الفضول أكرَمَ حِلفٍ سُمِعَ به، أشرَفَه فى العرب، وكان أوّلُ من تكلَّم به ودعا إليه الزّبيرُ بن عبد المطّلِب، وكان سببُه أنّ رجلاً من زبيد قَدِمَ مَكَّة بِبِضاعَةٍ، فاشتراها منه العاصِى بنُ وائلٍ، وكان ذا قدرٍ بِمَكَّةَ وشَرَفٍ، فحبس عنه حقَّه، فاستعدى عليه الزّبيديُّ الأحلاف: عبدَ الدّار ومخزوماً وجُمحَ وسهما وعديَّ بنَ كعبٍ، فأبو أن يعينوه على العاصي بن وائلٍ، وزبروه، أي انتهروه، فلما رَأَى الزُّبيدِيُّ الشَّرَّ أوفَى على أبى قُبَيْس عند طلوع الشّمس، وقريش فى أنديتهم حولَ الكعبة، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بسـاعتـــه [۳۲] ببطن مكـة نائى الدّار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمّت كرامته ولا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام فى ذلك الزُّبيرُ بن عبدِ المُطّلِب وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة فى دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاما وتحالفوا فى ذي القعدة فى شهر حرام قياما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله: ليكونَنَّ يداً واحدةً مع المظلوم على الظَّالِم حتَّى يؤدِّيَ إليه حَقَّه ما بلَّ بحرٌ صوفةً، وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التّآسِى فى المعاش، فسَمَّتْ قريشٌ ذلك الحِلفَ: حِلفَ الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء فى فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاصى بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزّبيديّ، فدفعوها إليه.” [۳۳]
وكان الزبير بن عبد المطلب قال فيه شعرا:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا فالجار والمعتر فيه سالم [۳٤]

وأما وجه تسمية هذا الحِلف بالفضول، فقد مرّ فى عبارةِ السّهيليّ المذكور آنفا من أنّهم قالوا: لقد دخل هؤلاء فى فَضل من الأمر” ولكن ذكر ابنُ قُتيبة وجهاً آخَرَ، فقال: “كان قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف جرهم فى الزّمن الأوّل، فتحالف منهم ثلاثةٌ، هم ومن تبعهم، أحدُهُم: الفضلُ بن فضالة، والثّانى: الفضلُ بنُ وداعة، والثّالث: فضيلُ بن الحارث…..فلمّا أشبه حِلفُ قريشٍ الآخَرَ فِعْلَ هؤلاء الجرهميِّين سُمِّيَ: حلف الفُضُول، والفُضول جمعُ فضل، وهي أسماءُ أولئك الّذين تقدَّم ذكرُهم” ذكره السّهيليّ أيضا ثمّ قال: “وهذا الّذى قاله ابنُ قتيبة حسنٌ.” [۳۵]
وإنّ حلف الفضول صار بعد ذلك أصلاً يُحتَجُّ به، لأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أَقَرّه وقال بعد ظهور الإسلام: “لو دُعِيتُ به فى الإسلام لأجبتُ”. ولذلك احتجَّ به كثيرٌ من النّاس، فاستَنْصَروا به، فنُصِرُوا. [۳٦]
وقال السّهيليّ رحمه الله تعالى، وهو يتكلَّمُ عن المبدأ الّذى أقرّ عليه حلف الفضول:
“وإن كان الإسلام قد رفع ما كان فى الجاهليّة من قولهم: يا لفلان، عند التّحزُّب والتّعصُّب…. وذلك أنّ الله عزّ وجلّ جعل المؤمنين إخوةً، ولا يُقال إلا كما قال عمرُ رضي الله عنه: يا لله وللمسلمين، لأنّهم كلَّهم حزبٌ واحِدٌ. وإخوةٌ فى الدِّين، إلّا ما خصَّ الشّرعُ بِهِ أهلَ حِلف الفُضول، والأصل فى تخصيصه قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلّم: “ولو دُعِيتُ به اليوم لأجبتُ” يريد: لو قال قائلٌ من المظلومين: “يا لحلف الفضول”لأجبتُ، وذلك أنّ الإسلامَ إنَّما جاءَ لإقامة الحَقِّ ونُصرَةِ المظلومين، فلم يزدد به هذا الحِلفُ إلّا قُوّةً، وقولُه عليه السّلام: “وما كان من حِلفٍ فى الجاهليّةِ فلن يَزِيدَه الإسلامُ إلا شِدَّةً” ليس معناه أن يقول الحليفُ: يا لفلان لحلفاءه فيُجِيبُوه، بل الشِّدّة الّتى عنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إنَّما هي راجعةٌ إلى معنى التَّواصُل والتّعاطُف والتّآلُف. وأمّا دعوى الجاهليّة فقد رَفَضَهَا الإسلامُ إلّا ما كان من حِلف الفضول كما قدّمناه، فحُكمُه باقٍ، والدّعوة به جائِزَةٌ.” [۳۷]
فالحاصل أنّ إقرارَ النّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم حِلفَ الفضول يدُلُّ على أنّ المسلمين يجوز لهم، بل يُستَحْسَنُ، أن يدخُلُوا مع غير المسلمين فى ميثاقٍ يَهْدِفُ إلى نُصرةِ المظلوم، ودَفْعِ الظُّلم، وما إلى ذلك من المقاصد الحسنة المفيدة للإنسانيّة.
ومتى دخل المسلمون فى مثل هذا الميثاق للتَّعاوُن على الخير، فإنّهم ينصرون كُلَّ مظلومٍ يَدخُل تحت الميثاق، سواءٌ كان مسلماً أو غيرَ مسلمٍ.
وكان السّبب فى غزوةِ فتحِ مَكَّةَ هو انتصارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم لحُلَفَاء من بنى خُزاعة، وهم غير مسلمين. وذلك أنّه كان قد تقرّر فى صلح الحُديبيّة أنّه يجوز لقبائِلِ العرب أن يدخُلُوا فى العقد مع من شاءوا، إمّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإمّا مع قُرَيشٍ، فدخل بنو خزاعة فى عقد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبنو بكر فى عقد قريش، وكانت بين بنى خزاعة وبنى بكرٍ عداوةٌ قديمةٌ، فلمَّا كانت الهدنةُ أراد بنو بكر أن ينتهزوا هذه الفرصةَ لأخذ ثأرهم من بنى خزاعةَ، فبَيَّتَ نَفَرٌ منهم خزاعةَ، فأصابوا منهم رجالاً، ونَقَضُوا العهدَ، وأعانت قريشٌ بنى بكرٍ بالسِّلاح، وقاتل معهم أشرافٌ من قُرَيْشٍ خُفيَةً، فخرج عمرُو بن سالم الخُزاعيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشده الحلف الّذى كان بينه وبين خزاعة، وسأله النَّصرَ والنّجدةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “نُصِرتَ يا عمرو بنَ سالِمٍ.” وبعث إلى قريش يخيرهم بين إحدَى ثلاثِ خِلالٍ، إمّا أن يدفعوا دِيَةَ قَتلَى خُزاعةَ، أو يبرأوا من العقد من المُعتَدِين من بنى بكرٍ، أو ينبُذُوا العهدَ الّذى كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وحيث إنّ قريشا اختاروا النَّبْذَ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاهم وافتتح مَكَّة المكرّمة. [۳۸]
والحاصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتصر لبنى خُزاعة بكلّ ما عنده من قُوّةٍ، وكان ذلك هو السّببَ فى نبذ الهدنة المعقود عليها فى حديبية، والذى انتهى إلى نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كُفّارِ قُريشٍ، وفتحِ مَكَّةَ.
وهذا كلُّه يَدُلُّ على رحابة صدر الإسلام والمسلمين فى التَّعاوُن مع المُسَالِمين من غير المسلمين فى المقاصد المشتركة وفيما يرجع نفعُه إلى نوعِ البشرِ كلِّه على مستوىً واسعٍ.
التّعامُل مع المحاربين من غير المسلمين
لا شكّ أنّ الإسلام شَرَعَ الجهادَ والقِتالَ لإعلاء كلمة الله تعالى، ولإقامة العدل والإنصاف، ولإخراج عباد الله تعالى من عبادة النّاس إلى عبادة الله، وللدّفاع عن حوزة الدّين، وبلاد المسلمين. وحالةُ الحرب فى جميع الأديان والملل حالةٌ تُستَهْدَفُ فيها نكايةُ العدُوّ وكسر شوكته والقضاء على الأنفس والأموال.
وجاء الإسلام، ونِيرانُ الحرب مشتعلةٌ فى مشارق الأرض ومغاربها دون التّقيُّدِ بضوابطَ، لا فى دواعِى الحربِ وأسبابِه، ولا فى الطُّرُقِ المُتَّبَعَةِ فى مُمُارَسَةِ القتال والسَّيْطَرَةِ على الأعداء. ولعلَّ الإسلامَ له الأسبقِيّةُ فيما بين النُّظُمِ الدُّنيَوِيّة فى سنِّ شَرَائِعَ منضبطةٍ للقتال، وإخضاعِ الحروبِ لضوابطَ معلومةٍ تُخرِجُها من الفوضَوِيّة إلى مطلبٍ مشروعٍ منظّمٍ.
١. إصلاح مقاصد القتال:
فأوّل ما أصّله الإسلامُ فى أمرِ القتال، هو أن يكون لسببٍ مشروعٍ ولمقصودٍ حسنٍ، وبهذا ألغى الإسلامُ جميعَ الحروب الّتى لايُقصَد من وراء ها إلّا إظهارُ الشّجاعةِ، أو كسبُ السُّمعةِ أو الحُصولُ على الأموال، أو تَمَلُّكُ الأراضى، أو الحفاظ على العصبِيّة الوطنِيّة أو اللّسانِيّةِ. فلا يُشرَعُ القتالُ فى الإسلام إلّا لإعلاءِ كلمة الله والدّفاعِ عن حوزة الإسلام والمسلمين. يقول أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه:
“جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: الرَّجُلُ يُقاتِل للمنغم، والرّجُلُ يُقاتِل للذِّكر، والرَّجُلُ يقاتل ليُرى مكانه، فمن فى سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا فهو فى سبيل الله.” [۳۹]
ويروِى أبو هريرة رضي الله عنه:
“أنّ رجلاً قال: يا رسول الله! رجلٌ يريد الجِهادَ فى سبيل الله، وهو يَبتَغِى عَرَضاً من عَرَضِ الدُّنيا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أجرَ له.” [٤۰]
فالحروب المنبثقة عن المعاداة الدُّنيَويّة، وعواطِفِ العصبيّةِ، والّتى تهدف إلى استعباد الآخرين واستعمارهم، كلُّها لا عَلاقةَ لها بالجهاد الإسلاميّ، وإنّما المقصودُ من الجهاد أمران:
الأوّل: الدّفاعُ عن الإسلام أو الدَّولةِ الإسلاميّة إن هَجَمَ عليها الكُفّارُ، وإليه أشار الله سبحانه وتعالى بقوله جلّ وعلا:
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ . الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه﴾ [الحج: 39، 40]
وبقوله تعالى:
﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]
والثّانى: دفع الظُّلم والفتنة وكسر شَوكَةِ الكُفرِ الّتى تحول دون الدَّعوةِ الإسلاميّةِ وقبولِها، وإليه أشار الله سبحانه وتعالى بقوله، وهو أصدق القائلين:
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾
[الأنفال: 39]
وهذا هو الهَدَفُ الّذى ذكره ربعيّ بنُ عامرٍ رضي الله عنه أمام رستم، حين هجم المسلمون على كسرى، سئلوا: ما جاء بكم؟ فقال:
“اللهُ ابتعثنا نُخرِجُ من شاءَ من عبادةِ العِبادِ إلى عبادة الله، ومن ضِيقِ الدُّنيا إلى سَعَتِها، ومن جَورِ الأديانِ إلى عدل الإسلام.” [٤۱]
وإنّه لم يَقصِد بقوله: “ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” أن يُكره النّاس على قبول دين الإسلام، وإنّما أراد إخراج النّاس من الظُّلم والاستعباد إلى العدل الّذى شرعه الله تعالى لعباده بتحكيم شريعة الله فى الأرض، حتَّى يُعطَى كلُّ ذِى حقٍّ حقَّه، أو كسر شَوكَةِ الظّالمين لتهيئة بِيْئَةٍ يستطيع فيها كلُّ إنسانٍ أن يُقارِنَ بين الأديان بأَعْيُنٍ مفتوحةٍ، ولا تحولُ شوكةُ الكُفرِ والظُّلمِ دون قبولِه للحَقّ بعد الاقتناع.
وبهذا سدّ الإسلامُ بابَ الحروب الاستعماريّة الّتى لاتهدف إلّا إلى استعباد الآخرين والسَّيطَرَةِ على أموالهم وأراضيهم.

٢. إصلاح الطرق المتبعة أثناء الحرب:
ثمّ إنّ الإسلامَ وضع ضوابطَ عادلةً للطُّرق المتبعة أثناء مباشرة القتال، حتَّى لاتكون الحربُ أمراً فوضَوِيّاً لا يتقيّد بِقُيُودٍ. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم كُلَّما بَعَثَ بعثاً للجهاد، أَوْضَحَ لهم هذه الضّوابِطَ وأَكَّدَ عليهم التَّقَيُّدَ بها، ويقول بريدةُ بنُ الحصيب رضي الله تعالى عنه:
“كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أمّر أميرا على جيشٍ أو سريّةٍ أوصاه فى خاصّته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثمَّ قال: اغزُوا باسم الله فى سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزُوا ولا تغلُّوا ولا تغدرو، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً.” [٤۲]
ويقول أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه:
“إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيشاً قال: انطلقوا باسم الله، لاتقتُلُو شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأةً، ولا تغلّوا وضُمُّوا غنائمَكم، وأَصلِحُوا وأَحسِنُوا إنّ الله يُحِبُّ المحسنين. [٤۳]
والمعهود من النّاس فى مثل هذه المناسبات الّتى يُبعَث فيها جيشٌ إلى العدوّ، أنّ القائدَ يُلقِى أمامَهم كلماتٍ عاطِفِيّةٍ تحضُّهم على القتال، وتُثِيرُ غيرَتَهم تِجاهَ العَدُوِّ، حَتَّى يقاتِلوه بِكُلِّ ما عندهم من قُوَّةٍ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُؤَكِّدُ عليهم أن لا يفرط منهم أثناء القتال ما لم يشرعه الله تعالى. وأخرج البخاريّ وغيرُه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
“وُجِدَت امرأةٌ مقتولةٌ فى بعض مغازِى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّساءِ والصِّبيانِ”. [٤٤]
وإنّ أبابكر رضي الله عنه حين بعث جيوشاً إلى الشّام، وأمّر عليهم يزيدَ بن أبى سفيان فمشى معهم يشيّعهم، وأوصاه بما يأتي:
“إنّك ستجد قوماً زعموا أنّهم حبسوا أنفُسَهم لله، فدَعْهم وما زعموا أنّهم حبسوا أنفسهم له …[٤۵] وإنِّى مُوصِيكَ بعشرٍ: لاتقتُلَنّ امرأةً، ولا صبيّاً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعْ شجراً مُثمِراً، ولا تخربَنّ عامراً، ولا تعقرن شاةً ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تغرقنّ نَخْلاً ولا تحرقنّه، ولا تغلّوا ولا تجبُنُوا.” [٤٦]
وكانت العادةُ المُتَّبَعَةُ قَبلَ الإسلامِ أنّ المقاتِلين كانوا يَسعَونَ إلى حصول مقاصدِهم بأيّةِ وسيلةٍ تُتَاح لهم، ولكنّ الإسلامَ سنَّ لهم هذه الشّرائعَ، حتَّى أصبحت أحكامُ الجهاد والقتال علماً مستَقِلّاَ أُلِّفَتْ فيه الكُتُبُ. ولعلّ كتابَ السِّيَر للأوزاعيّ، وكتابَ السِّيَر الكبير للإمام محمّد بنِ الحسن الشّيبانيّ رحمهما الله تعالى من أوّل الكُتُبِ الّتى دَوَّنَت أحكامَ الحرب والعَلاقاتِ الدُّوَلِيَّةِ بهذا البسط والتّفصيل، وكلُّ ذلك على أساسِ القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ النّبويّةِ المطهَّرَة، وتعامُلِ الخلفاءِ الرّاشدين والصّحابة رضي الله عنهم.

٣. إقامة العدل أثناء القتال:
وإنّ الإسلام لم تَقْتَصِرْ تعاليمُه على تقييد مباشَرَةِ القتال بضوابطَ نبيلةٍ ذكرناها فيما سبق، وإنّما أكّد على المسلمين أن يكونوا مهتمِّين بإقامة العدل بدِقّةٍ، حتى فى حالة مباشرة القتال.
مثلاً: المعهود فيما بين الأديان والمِلَلِ كلِّها أنّ فى حالة الحرب تُستَبَاحُ أموالُ العَدُوّ، فيجوز للمحارِبين أن يقبِضُوا على أموالِ العَدُوّ بأيِّ طريقٍ يُتاح لهم. ولكنَّ الإسلامَ قصر هذه الإباحةَ على ما يحصل عليه المسلمون بقُوَّةِ ساعدِهم. أمّا الأموالُ الّتى جائتهم بطريق الأمانة مثلاً، فإنّ الإسلام لا يُبِيح للمسلمين أن يَقبِضوا عليها بطريقِ المصادرة.
وإن من الأمثلة العمليّة اللّامعة لتطبيق هذ المبدأ، ما وقع فى غزوة خيبر مع الأسود الرّاعى رضي الله عنه، وإنّ هذه القِصّةَ مروِيّةٌ بعِدَّةِ طُرُقٍ فى كتب الأحاديث والسِّيَر، ونذكرها هنا من رواية البيهقي رحمه الله رواها عن موسى بن عقبة إمام المغازى، قال:
“ثمّ دخلوا-يعنى اليهود- حصناً لهم منيعاً، يقال له العموص، فحاصرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريباً من عشرين ليلةً، وكانت أرضاً وخمةً شديدةَ الحَرِّ فجهد المسلمون جهداً شديداً، فوجدوا أحمرةً إنسيّةً ليهود. فذكر قصتها، ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أكلها….
قال: وجاء عبدٌ حَبَشِيٌّ أسودُ من أهل خيبر، كان فى غَنَمٍ لسَيِّدِهِ، فلمَّا رأى أهلَ خيبر قد أخذوا السِّلاح سألهم. ما تريدون؟ قالوا: نُقاتِلُ هذا الرَّجُلَ الّذى يزعم أنّه نَبِيٌّ، فوقع فى نفسه ذكرُ النّبِيّ صلّى الله عليه وسلم فأقبل بِغَنَمِه حتَّى عهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه، قال: ماذا تقول وما تدعوا إليه؟ فقال: أدعو إلى الإسلام وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّى رسولُ الله، وأن لا نعبد إلا الله، قال العبد: فماذا لى إن أنا شَهِدتُ وآمنتُ بالله؟ قال: لك الجنة إن مِتَّ على ذلك، فأسلم.
قال: يا نَبِيَّ الله! إنّ هذه الغَنَمَ عندى أمانة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَخْرِجْهَا من عسكرنا، وارمها بالحصباء، فإنّ الله سيُؤَدِّى عنك أَمَانَتَك، ففعل فرجعت الغَنَمُ إلى سيّدها.”
وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
“فقال له: إنّي قد آمنُت بك وبما جئتَ به، فكيف بالغَنَمِ يا رسول الله؟، فإنّها أمانةٌ وهي للنّاس الشّاةُ والشّاتان وأكثر من ذلك، قال: احصب وجوهَها ترجع إلى أهلها. فأخذ قبضة من حصباء أو ترابٍ فرَمَى به وجوهَها، فخرجت تشتدّ حتى دخلت كلُّ شاةٍ إلى أهلها، ثمّ تقدَّمَ إلى الصّفّ فأصابه سهمٌ فقتله، ولم يُصَلِّ لِلّٰه سجدةً قطّ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلوه الخباء…فقال: لقد حَسُنَ إسلامُ صاحِبِكم، لقد دخلتُ عليه وإنّ عنده لزوجَتَيْنِ له من الحُور العِين.”
وفي رواية أنس رضي الله عنه:
“فقال: يا رسول الله! إنّى رجلٌ أسودُ اللَّونِ قبيحُ الوجه مُنْتِنُ الرّيح لا مالَ لى، فإن قاتلتُ هؤلاء حَتَّى أُقتَلَ أدخل الجنة؟ قال: نعم، فتقدّم فقاتَل حتَّى قُتِل، فأَتَى عليه النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وهو مقتولٌ فقال: لقد أحسن اللهُ وجهَك وطَيَّبَ روحَك وكثَّرَ مالَك… لقد رأيتُ زوجَتَيْهِ من الحُورِ العِينِ.” [٤۷]
لقد صرّحتِ الرِّواياتُ الصّحيحةُ بأنّ الصّحابةَ كانُوا فى هذه الغزوة فى جهدٍ جهيدٍ، حتَّى اضطُرُّوا إلى ذَبْح الحُمُرِ وطبخِها، ولكن مُنِعُوا من أكلِها حتَّى أكفئوا القُدورَ، وفى هذه الحالة جاءهم الأسودُ الرّاعى بقطيعِ غَنَمٍ، وهي مملوكةٌ للعَدُوِّ، وكان أسهلَ شيءٍ للمسلمين فى هذه الحالة أن يعتبروا هذه الغَنَمَ غنيمةً بتأويلِ أنّهم مع مُلّاكِها فى حالة الحرب الّتى تُبِيحُ لهم أموالَهم، بحُجّةِ أنّ الرّاعيَ قد أسلم والتَحَقَ بالمسلمين مستعِدّاً للقتال ضدَّ اليهودِ، ومنهم مُلّاكُ الغَنَمِ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرضَ بذلك، لأنّ الرّاعِيَ قد أخذ الغَنَمَ من مُلّاكِها بعقدٍ من عقودِ الأمانة، فأمره بردِّها إلى أصحابِها، حتَّى فى هذه الحالةِ الشّديدةِ الّتى كان المسلمون من أحوج النّاسِ إليها.
وإنّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلّم نَشَرَ هذه المبادئَ العادِلَةَ فيما بين أصحابِه بما جعلهم يتعوّدُون مُمُارَسَتَها فى تعامُلِهِم مع غير المسلمين حتَّى فى حالة الحرب، وإنّ خُبَيْباً رضي الله عنه كان أسيراً فى أيدى أعدائِه من الكُفّار، فدرج إليه طفلٌ من أطفالهم، فأجلسه على فخذه، وبيده الموسى، فَفَزِعَتْ أُمُّه، فقال خُبَيْبٌ رضي الله عنه: أَتَخْشَيْنَ أن أَقْتُلَه؟ ما كنتُ لأفعلَ ذلك.” [٤۸]
وكان من الممكن لخُبَيبٍ رضي الله عنه أن يستَغِلّ هذه الفرصةَ، ويَتَّخِذَ ذلك الطِّفلَ رهناً على الأَقَلِّ حتَّى يتخلّصُ من أسرِهم، ولكنّه لم يفعل ذلك، ورضي بأن يجود بنفسه ولم يرض بأن يُنسَبَ إلى المسلمين أنّهم يَقْتُلُون الأطفالَ، أو يَغصِبُونهم من أجل حرّيّتهم.
وقد أخرج الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام رحمه الله تعالى عن صفوان بن عمرو، وسعيد بن عبد العزيز:
“إنّ الرُّوم صالحت معاويةَ رضي الله عنه على أن يُؤَدِّيَ إليهم مالًا، وارتهن معاويةُ منهم رهناً، فجعلهم ببعلبك ثمّ إنّ الرُّومَ غدرت، فأبى معاويةُ والمسلمون أن يستَحِلُّوا قتلَ من فى أيديهم من رهنهم، وخَلَّوْا سبيلَهم، واستفتحوا بذلك عليهم، وقالوا: وفاءٌ بغدرٍ خير من غدرٍ بغدرٍ.” [٤۹]
ولا يمكن لهذا البحث الموجز أن يَستقصِيَ ما شَرَعَ الإسلامُ من الأحكامِ العادِلَةِ، وما سنَّ التّاريخُ الإسلاميُّ من المُثُل العُليا فى ضوابط التّعامُل مع غير المسلمين فى حَالَتَيِ السّلم والحرب. ولكن نرجو أن يكون فيما ذكرنا أنموذجٌ طيِّبٌ لهذه الأحكام والمُثُل الّتى تدُلُّ على سماحة هذا الدّين والاتّزان الّذى سلكه فى هذ الموضوع.
تفضيل الوسائل السّلمية لحلّ النّـزاعات
إن علماءَ الفقهِ وأصولِه والمتكلّمين متّفقون على أنّ القتال فى سبيل الله أمرٌ حسنٌ لغيره، لا لعينه، بمعنى أنّه إنّما يُصار إليه عند الحاجة، فإن حصلت مقاصِدُ الشّريعة بالطُّرُقِ السّلميّةِ، فلا حاجةَ إلى القتال، ولذلك ورد فى الحديث فى سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام أنّه بعد نزوله فى آخر الزّمان: “يضع الحَرْبَ.” [۵۰] وذلك لأنّ مقاصِدَ الشّريعةِ تحصُل بدون حربٍ وقتالٍ.
وهذا يَدُلُّ على أنّه إن أمكن فصلُ النِّزاعاتِ الدُّوَلِيّةِ بالطُّرُقِ السلميّةِ، فإنّها تفضل على إشعال الحرب والقتال، ما دامت هذه الطُّرُقُ السّلمية تضمن المصالحَ الشّرعيّةَ. والأصل فى ذلك قول الله تعالى:
﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾
[الأنفال: 61]
وإنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لبديل بن ورقاء قُبَيل صلح الحُدَيْبِيّة:
“إنّا لم نَجِئْ لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرِين، وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحربُ وأضرّتْ بهم، فإن شاءوا ماددتُهم مُدّةً يُخَلُّوا بينى وبين النّاس، فإن أَظْهَرْ، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه النّاسُ فعلوا، وإلّا فقد جمّوا. وإن هم أبوا، فو الّذى نفسى بيده لأُقَاتِلَنَّهُمْ على أمرى هذا حَتَّى تنفرد سالفتى، ولينفذنّ اللهُ أمرَه.” [۵۱]
وإنّ هذه الكلماتِ البليغةَ على لسان أفصحِ الفُصَحَاءِ صلى الله عليه وسلم تُمَثِّلُ موقِفَ الإسلام من الحرب والسّلم بكُلِّ قُوّةٍ وَوُضوحٍ. إنّ قولَه صلى الله عليه وسلم: “إنّ قريشاً نهكتهم الحربُ وأضرّت بهم” يبيّن بكُلِّ صراحةٍ أنّ الحربَ ليست أمراً يُستَحسَن فى نفسه، وأنّه إن أمكن إقامةُ الأمن والسّلام، فلا حاجة إلى إثارة حربٍ، ولكن تفضيل الوسائلِ السّلميّةِ لا يمكن أن يكون على قيمةِ المقاصد الشّرعيّة، وبتضحية المبادِئِ القيِّمَةِ الّتى جاء الإسلام لتوطيدها، والأصل فى ذلك قول الله سبحانه وتعالى:
﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: 7]
أمّا إذا اتّخذ العدوّ المفاوضاتِ السّلميّةَ حِيلةً للمطل والتسويف، وذريعةً للتمادى فى باطله، ووسيلةً للاستمرار فى ظُلمِه والتّأخيرِ فى أداء الحقّ إلى مستحِقِّه، فإنّ هذه الأساليبَ السّلميّةَ ليست إلا غشّاً وخداعاً، وإنّها لا تُجدِى نفعاً فى إقامة السّلم على أساسٍ عادلٍ، والأمر فى مثل هذه الحالة كما قال الشّاعر:
والسّيفُ أبلغُ وعاظ على أمم.