أهمّ شروح الحديث المؤلَّفة فى الهند وباكستان
فى القرن الرابع عشر الهجريّ

بسم الله الرحمن الرحيم

فى أول زيارتى لجمهوريّة مصر سنة ١٩٧٨م زرت جامعة الأزهر والتقيت بشيخ الأزهر العلّامة الشّيخ جاد الحق رحمه الله تعالى، وفضيلة العلامة الشيخ حسينى عبدالمجيد هاشم رحمه الله تعالى، الّذى كان حينذاك وكيل الأزهرالشريف، والأمين العامّ لمجمع البحوث الإسلامية، وكان مشغولا فى ذلك الزمان بإكمال تحقيق مسند أحمد الذى بدأ به العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى. وكنت حينذاك فى تأليف “تكملة فتح الملهم”. فلمّا علم الشيخ حسينى رحمه الله تعالى أنّى شرعت فى تأليفه ففرح بذلك فرحا بالغا، وذكر أنّه فى سبيل عقد مؤتمر عالميّ للسيرة والسنّة النبويّة على صاحبها السلام، فدعانى أن أكتب مقالا لتعريف “فتح الملهم” وتكملته وبيان مزاياهما.
فانتهزت هذه الفرصة لتعريف الجهود التى بذلها علماء ديوبند خاصّةً فى نشر الحديث وعلومه فى هذه الدّيار وللتّنويه ببعض شروح الحديث التى ألّفت من قبلهم. فبدلاً من أن أكتب مقالا فى تكملة فتح الملهم فقط، كتبت المقال الآتى، لِمَا وجدت فى البلاد العربيّة من عدم المعرفة بهذه الخدمات. وليكن فى الحِسبان أنّى لم أتمكّن فى هذا المقال من استقصاء جميع الكتب الحديثية التى ألّفت فى الهند وباكستان، وإنما اقتصرت على ذكر أهمّ الكتب الّتى صدرت من علماء ديوبند فقط.
وإنّ المؤتمر الّذى كتبت له هذا المقال لم يُقدَّر انعقاده، وأرجو أن نشره لايخلو من فائدة إن شاء الله تعالى.
وبدأته بالرسالة التى كتبتها إلى الشيخ حسينى رحمه الله.

محمد تقي العثماني

المورخة ٢٩ من ذى العقدة ١٤۰٥هـ

بسم الله الرحمن الرحيم
إلى فضيلة العلامة المحقق الشيخ حسينى عبدالمجيد هاشم، حفظه الله تعالى
وكيل الأزهر الشريف، والأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد: فقد أمرتموني عند زيارتى لفضيلتكم فى الأزهر الشريف فى الشهر الماضى أن أكتب بحثا لمؤتمر السيرة والسنّة النبويّة على صاحبها الصلاة والسلام، الذى سينعقد في الأزهر فى شهر نوفمبر، إن شاء الله، واقترحتم علىّ أن يكون ذلك البحث حول كتابى “تكملة فتح الملهم” التى أهديت إليكم نسخة منه.
ولكنّنى عند كتابة مقالتى فضّلت أن لا أقتصر على هذا الكتاب فحسب، وآتى بتعريف عدة شروح الحديث الأخرى الّتى ألّفها علماء الهند وباكستان فى القرن الرابع عشر الهجريّ، فإنّها لم تزل – ولا تزال – مخبوئةً فى مكتبات جنوب شرق آسيا، ورأيت خلال جولانى فى البلاد العربيّة أنّه لايعرفها من العلماء في تلك البلاد إلاّ عدد قليل.
وبما أنّ الوقت المرصود لكتابة هذه المقالة كان ضيِّقاً جدّاً، فلم أتمكّن من استقصاء الموضوع واستيفائه وتوفيته حقّه، ولكنّى أُرسِل إليكم المقالة، فإنّها بشكله الموجز لاتخلو عن فوائد، إن شاء الله، وأرجو اللهَ سبحانه وتعالى أن يُتِيحَ لى الفرصة بتذييلها بفهرس جامع لما ألّف فى القرن الرابع عشر فى علم الحديث من قبل علماء الهند وباكستان مع ذكر مؤلِّفيها وطبعاتِها المختلفةِ، وتعريفها الموجز.
هذا وأرسل إليكم هذه العُجالةَ امتثالا لما أمرتمونى به راجياً منكم الدّعاءَ، أبقاكم الله تعالى زخرا للإسلام والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد تقي العثماني

بسم الله الرحمن الرحيم

أهمّ شروح الحديث المؤلَّفة فى الهند وباكستان
فى القرن الرابع عشر الهجريّ

الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على خير خلقه سيّدنا ومولانا محمدٍ النبيّ الأمين، وعلى آله وأصحابه البررة الطيّبين الطّاهرين، وعلى كلّ من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين،
وبعد: فإن السنّة النبويّة من أجلّ ما قامت هذه الأمّة بخدمته من العلوم الإسلاميّة، وبذلت فى هذا السبيل جهوداً لا يُعرف لها نظيرٌ فى أيّ علمٍ آخرَ، نظراً إلى تنوُّع جهاتِها، وكثرةِ نواحيها، ومدى التعمُّق فى الوصول إلى جزئيّاتها الدّقيقة.
ولا شكّ أن أعظم هذه النّواحى شأناً، وأعزِّها مطلباً، وأكثرِها نفعاً: هو شرح متن الحديث بما يوضِح معانِيَه، ويُبرز حقائقَه، ويَكشِفُ القناع عن مُراده و مغزاه، وقد قام العلماءُ فى كلِّ عصرٍ ومصرٍ بهذه الخدمة المباركة للسنّة المطهّرة حسب ما اقتضت الحاجاتُ فى كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فألّفوا شروحاً على جميع كتب السنّة، على اختلافٍ بينهم فى أُسلوبِ التّأليف، ومدى إهتمامهم بمختلِف نواحى الحديث، فمنهم من عُنِيَ فى شرحه بتفسير الكلمات الغريبة، وشرح معانيه اللغويّة، ومنهم من اعتنى بضبط متن الحديث وإعرابه النحويّ، ومنهم من اهتمّ بحكاية أقوالِ من سبقه من الشرّاح، ومنهم من بذل معظم جهده فى تنقيح مذاهب الفقهاء، وسرد أدلّتهم فى استنباط الأحكام الفقهيّة من الحديث، ثم منهم من بسط وفصّل، ومنهم من إختصر وأوجز، وإنّ أعناق الامّة مَدِينةٌ بالفضل لهؤلاء العلماء المُتْقِنِين، الّذين أناروا لها السبيلَ إلى إدراك معانى الحديث، فجزاهم الله تعالى خيراً، وأجزل لهم أجراً.
ونُشاهِد فى تاريخ علم الحديث أنّ البلادَ الإسلاميّةَ لم تزل تتناوب فى الاضطلاع بعلوم السنّة، والقيام بخدمتها فى القرون المختلفة، فنرى فى بعض القرون الأولى أنّ الحجاز، مركزٌ لنشر علوم السنّة، يرجع إليها الطّالبون من كلِّ صوب وحدب، ونرى فى القرون التّالية بعدها، رئاسةُ هذه العلوم قد انتقلت إلى العراق، ثم إلى مصر، وإلى ما وراء النّهر، ثمّ، ثمّ. وهكذا متّع الله تعالى سائر بلاد المسلمين بعلماءَ قاموا بحفظ السنّة النبويّة، وإرساء قواعدها، وإيضاح معناها، ونشر رسالتها فى ربوع المسلمين.
وقد تحدث الإمام العلامة محمد زاهد الكوثريّ رحمه الله تعالى عن تاريخ هذا التّناوُب فى مقالة من مقالاته بشيئ من البسط، ثمّ قال:
“ثم توزّعت الأقطار والنّشاط العلميّ، وكان حظُّ إقليم الهند من هذا الميراث– منذ منتصف القرن العاشر – هو النّشاط فى علوم الحديث، فأقبل علماء الهند عليها إقبالا كلّياًّ، بعد أن كانوا منصرفين إلى الفقه المجرد، والعلوم النظريّة، ولو استعرضنا ما لعلماء الهند من الهمّة العظيمة فى علوم الحديث من ذاك الحين – مدّة ركود سائر الأقاليم – لوَقع ذلك موقع الإعجاب الكلّيّ والشّكر العميق. وكم لعلمائهم من شروحٍ ممتعةٍ، وتعليقات نافعة على الأصول الستّة وغيرها، وكم لهم من مؤلفات واسعة فى أحاديث الأحكام، وكم لهم من أياد بيضاء فى نقد الرجال، وعلل الحديث، وشرح الآثار، وتأليف مؤلفات فى شتّى الموضوعات. والله سبحانه هو المسئول أن يُدِيم نشاطهم فى خدمة مذاهب أهل الحق، ويوفّقهم لأمثال ما وفّقوا له إلى الآن، وأن يبعث هذا النشاط فى سائر الأقاليم من جديد.”
وإنّ هذا النّشاط الكبير الّذى حُظِى به علماء الهند بهذه القرون الأخيره هو الذى جعل الأستاذ العلامة الفاضل السيّد محمّد رشيد رضا، رحمه الله تعالى، يقول فى مقدمة “مفتاح كنوز السنّة”:
“ولو لا عنايةُ إخوانِنا علماء الهند بعلوم الحديث فى هذا العصر لقُضِيَ عليها بالزّوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت فى مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر من الهجرة، حتّى بلغت منتهى الضُّعف فى أوائل هذا القرن الرّابع عشر.”
وأوّل من يرجع إليه الفضل بترويج علوم السنّة فى ربوع الدّيار الهنديّة، هو الإمام المسند المجتهِد الشّيخ وليّ الله بن عبد الرّحيم الدّهلويّ، رحمه الله تعالى، فإنّه لمّا رأى الدّيارَ الهنديّةَ قد اكتضّت للعلوم النّظريّة والعقليّة، ولم تبق لها علاقةٌ بعلوم الكتاب والسنّة، وجَعَلَتِ العلومَ العقليّةَ مبلغَ علمِها، وغايةَ رغبتِها، ومدارَ فخرِها، سافر إلى الحجاز، وتتلمّذ على الشيخ إبراهيم الكرديّ رحمه الله تعالى، وهو عمدة المشتغلين بالحديث فى الحجاز، فتلقَّى منه العلوم الحديثيّةَ بأجمعها، ولازمه ملازمةً حتَّى كان الشّيخ الكرديّ رحمه الله يقول فيه:
“تلقّن منّا الألفاظ، وتلقّنّا منه المعنى.”
يريد تبيين ملاحظ الحديث والوصول إلى معناه، وهو عين ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه المعروف:
“وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه”
ثم رجع الشيخ رحمه الله تعالى بهذه العلوم إلى بلاد الهند، وملأها بأنوار السنّة النبويّة، حتى صار عمدةً فى هذا الباب، رجع إليه طلاب الحديث من سائر مناطق شبه القارة الهنديّة، ورجعوا إلى أوطانهم مضطلعين بهذه العلوم، فدرّسوا الحديث، ونشروا رسالته وألّفوا فيه وصنّفوا وأفادوا وأجادوا، رحمهم الله تعالى.
وكان من أخلاف الشّيخ وليّ الله رحمه الله، هم الذين أسّسوا جامعة “دارالعلوم” بديوبند الّتى تلقّب فى هذه الديار بأزهر الهند، والتّى أصبحت أكثرَ المناهل الدينيّة وروداً للطلاّب وأعمرَها بالعلم والعلماء، وأكبرَها نشاطاً فى حمل رسالة الإسلام فى هذه الدّيار، فظهر منها علماءُ لهم أقدامٌ راسخةٌ فى سائر العلوم الإسلاميّة وأياد بيضاءُ فى إثراء الأمّة الإسلامية بالعلم والتّقوى، ولمّا زار الأستاذ الفاضل العلاّمة السيد محمد رشيد رضا بلاد الهند، سافر إلى “دار العلوم” بديوبند، وقال فى مقالةٍ طويلةٍ ألقاها هناك:
“ولو لم أر هذه الجامعة العلميّة ومثل هؤلاء الأحبار والأعلام لرجعت من الهند حزيناً.”
ولمّا رجع إلى مصر، صدع بكل ذلك فى جريدته “المنار” وقال فيها:
“على أنّنى رأيت في مدرسة “ديوبند” الّتى تلقّب بأزهر الهند، نهضةً دينيّةً علميّةً جديدةً، أرجو أن يكون لها نفعٌ عظيمٌ.”
وقال أيضا:
“ما قرّت عينى بشيءٍ فى الهند كما قرّت برؤية مدرسة “ديوبند” و لاسرّت بشي هناك بما لاح لها من الغيرة والإخلاص فى علماء هذه المدرسة، وكان كثيرٌ من إخوانى المسلمين فى بلاد الهند المختلِفةِ يذكرون لى هذه المدرسةَ، ويصف رجالَ الدّنيا منهم علمائها بالجمود والتعصُّب، ويُظهِرون رغبتهم فى إصلاح تعميم نفعها، وقد رأيتهم – ولله الحمد – فوقَ جميعِ ما سمعتُ عنهم من ثناءٍ وإنتقادٍ.”
ومن مميّزات هذه الجامعة الإسلاميّة أنّها جعلت دراسة النبويّ الشّريف على قمّة مقرّرها الدّراسيّ بحيث خصّصت لها سنةً كاملةً يدرُس فيها الطّالبُ الأمّهاتِ الستّةَ بأجمعها، بالإضافة إلى موطّائى الإمام مالك والإمام محمّد رحمهما الله تعالى وشرح معانى الآثار للطّحاوي، لدا أساتذة مهرة مختصّة لايقتصرون على مجرّد رواية الحديث وقراءته على الطّالب، وإنّما يشرحون كلَّ حديثٍ بما فيه من معانٍ ومعارفَ، وما يتعلّق به من مباحثِ الإسناد، وما يُستَخرج من أحكامٍ فقهيّةٍ، مهتمّين بذكر مذاهب الفقهاء، وأدلّتهم المبسوطة، وترجيح ما رجح منها، بما يجعل هذه الدروس والمحاضرات بحوثاً قيّمةً تجمع بين مباحث النحو والصّرف والبلاغة من علوم العربيّة، وبين تفسيرٍ وحديثٍ وفقهٍ وكلامٍ من العلوم الدّينيّة، وعلومِ المنطق والفلسفة وما إليها من العلوم النظرية، وكان من عادة الطلاّب فى هذه الدروس أن يضبطوا محاضراتِ الأستاذ باللّغة العربيّة والأرديّة، فتظلّ عندهم كأمالى أستاذٍ، وقد طبع من هذه الأمالى عددٌ غيرُ قليل.
ومن الخصائص البارزة لجامعة “دارالعلوم” ونظام دراساتها، أنّها لم تقتصِر على تعليم الكتب وتدريس العلوم، فحسب، وإنّما عُنيت بتربية الطُّلّاب وتثقيفهم على منهاج السنّة النّبويّة على صاحبها الصلاة والسلام أكثر ممّا عُنِيَت بتدريس العلوم، فاحتفظ أساتذتُها و طُلّابُها بالسُّنَنِ النبويّة على صاحبها الصّلاة والسّلام فى سائر شئون حياتهم، حتَّى فى الزّيّ، والطّعام والشّراب.
وكان الاستعمار الإنكليزيّ الغاشم قد سدّ على هؤلاء جميعَ أبواب المعاش ليقلعوا عن عملهم فى سبيل نشر رسالة الإسلام خوفاً من الفقر والجوع، ولكنّهم بما رزقهم الله تعالى من الورع والتّقوَى، والصّبر على الشّدائد، رضُوا بالأطعمةِ البسيطةِ والملابسِ الخَشِنَة، والمساكِنِ الضيّقةِ، ولم يُهمِلُوا عملهم الدؤوب الهادئ فى الاحتفاظ بالعلوم والكتاب والسنّة، فملئوا هذه الدّيارَ – رحمهم الله تعالى – علماً ونوراً وهدًى، وغرسوا فى قلوبِ الشّعبِ المسلِمِ الحبُّ العميقَ للّه ورسوله ولدينه العزيز، فما من قريةٍ من قُرَى الهند وباكستان إلّا ولهم فيها مآثِرُ لامعةٌ وأنوار ساطعةٌ.
ولكن من المؤسِف أنّ أعمالَهم الجسيمةَ فى سبيل خدمة السنّة النّبويّة المطهَّرة لم تزل مخبوءة فى جنوب شرق آسيا، ولم يطّلع عليها فى البلاد العربيّة إلاّ قليلٌ من الرّجال، وذلك لأنّهم إنّما عَمِلُوا فى بيئةٍ، ضيّق فيها الاستعمار عليهم المجال، وقلّل لهم من وسائل معيشة وأموال، فلم يستطيعوا أن ينشروا مؤلَّفاتِهم على طرازٍ عصريّ من الطّباعة، وإنّما طبعت معظمُ مؤلّفاتِهم طبعاً حجريّا على ورق رديئ، فلم يرغب فيها التّجار، ولم يلتفت إليها إلاّ المحترقون للعلم الّذين لا تهمهم المظاهرُ ، فلم يوجد من يُصدِر هذه الكتب إلى البلاد العربيّة بما يلائِمُ ذوقَ العصر الجديد.
وأشكر فضيلة الأستاذ العلّامة المحقِّق الشّيخ حسيني إبراهيم وكيل الأزهر الشريف – حفظه الله تعالى – على ما طلب منّى من أن آتي فى هذا المؤتمر الحاشد الكريم بمقالة تعرّف خدمات علماء الهند للحديث والسنّة النبويّة، والحقّ أنّ الاستقصاء لهذه لخدمات فى الذّكر والتّعريف يحتاج إلى مؤلَّفٍ ضخمٍ لا يتحمّله الوقتُ المرصودُ لكتابة هذه المقالة، ولا الحد المطلوب لها لهذا المؤتمر، فأريد فى مقالتى الوجيزة أن أعرّف الأهم من شروح الحديث الّتى ألّفها علماءُ الهند وباكستان منذ بدايةٍ من قرن الثالث عشر الهجريّ إلى يومنا هذا – والله الموفّق المستعان.
1- فيض البارى
هو مجموعة لأمالى الإمام العلّامة الشّيخ محمد أنور شاه الكشميريّ رحمه الله تعالى على صحيح البخاريّ، وكان الشّيخ رحمه الله آيةً من آيات الله فى قُوّة حفظه، وعمق علمه، وسعة اطّلاعه فى سائر العلوم الدّينيّة والعربيّة، ولا سيّما فى علوم الحديث، وقد تولّى رئاسة التّدريس “بدار العلوم” بديوبند، وقد درّس فيها صحيح البخاريّ مدّة عشرات السنين، وكان يتكلّم فى درسه عن سائر المباحث المتعلّقة بمتن الحديث وإسناده، ويأتى فيه بتحقيقاته الأنيقة وبحوثه المبتكرة، وإفاداته المرتجلة.
فجمع تلميذُه الرّشيد العلّامة المحقّق الشيخ بدر عالم – رحمه الله تعالى – محاضراتِه الّتى كان يُلقِيها أمام الطّلبة فى تدريسه لصحيح البخاريّ، وسمّاه “فيض البارى” وعلّق عليها تعليقاتٍ ممتعةً نافعةً سمّاها “البدر السّارى”,
وإنّ هذا الكتاب قد طُبِعَ فى أربعة مجلّداتٍ طبع الحروف، ويوجد فيه من المباحث النّفيسة، ما قد لا يوجد فى الشّروح المبسوطة لصحيح البخاريّ.و من المعروف لدى أهل العلم أن شرح الحافظ ابن حجر لفتح الباري شرحٌ حافلٌ، قد جمع فيه الحافظُ سائرَ العلوم المتعلِّقة بصحيح البخاريّ، بحيث لم يَدَعْ فيه مستزاداً لمستزيدٍ، حتى تمثّل له بعضُ العلماء بالحديث المعروف “لا هجرة بعد الفتح”، ولكنّ الإمام الكشميريّ رحمه الله تعالى، قد أتى فى شرح صحيح البخاريّ بفوائد مبتكرة لم يُسبَق بمثلها، وزاد على الشّروح المتداوَلة مالا يستغنى عنه طالبُ علمٍ.
وبما أنّ الشّيخ الأنور – رحمه الله تعالى – كان بحراً زاخراً فى العلوم العقليّة والنقليّة، آيةً من آياتِ الله فى إستحضارها، فإنّه ينتقل فى أماليه من حديث إلى حديث، ومن علم إلى علم، ومن هذه الجهة أصبح كتاب “فيض البارى” جَنّةً متنوِّعةَ الأزهار والأثمار، يجد فيه الطّالبُ فوائدَ أنيقةً، ومباحثَ طريفةً من كل علمٍ وفنٍّ.
٢- فتح الملهم بشرح صحيح مسلم
ألّفه مولانا العلاّمة المحقّق الفاضلُ الشّيخ شبّير أحمد العثمانيّ – رحمه الله تعالى – ومن المعروف لدى أهل العلم أنّه لم يكن لصحيح مسلم شرحٌ مبسوطٌ بمثابة فتح البارى وعمدة القارى، وإنّ الشروح المتداولة كشرح النوويّ والأُبّيّ، رحمهما الله تعالى، على نافعيّتها فى فهم مراد الحديث، موجزة جدّا، ولا يوجد فيها من التّفصيل والبسط واستيعاب المباحث المتعلّقة ما يوجد فى شروح صحيح البخاريّ.
فقام شيخنا العلامة شبّير أحمد العثمانيّ بسدّ هذا الفراغ، وشرع فى تأليف هذا الشرح على طراز شروح صحيح البخاريّ، واستقصى المباحثَ المتعلّقةَ بكلِّ حديث متناً وإسناداً وجمعها على صعيد واحد، بالإضافة إلى الفوائد النّادرة الّتى تلقّاها – رحمه الله تعالى – من مشايخه وأساتذته، كشيخ الهند مولانا العلاّمة محمود الحسن،رحمه الله تعالى، وإمام العصر العلاّمة الشيخ رشيد أحمد الكنكوهى، والإمام الشيخ محمد أنور شاه الكشميريّ – رحمهم الله تعالى، ثم أتبعها فى كثير من المواضع بما جادت به قريحتُه المُبدِعة من إفادات وأفكار قلّما توجد فى شرح غيره.
ويكفينا فى تعريف هذا الكتاب ما كتبه الإمامُ المتقنُ الثبت المحقق الشّيخ محمّد زاهد الكوثريّ رحمه الله تعالى، فإنّه لمّا رأى مجلّدين من هذا الكتاب كَتَبَ فى مجلّته “الإسلام” مقالةً لتعريفه والتقريظ عليه، ذكر فيها الشُّروحَ المعروفةَ لصحيح مسلم، ثمّ قال:
“لكنّ الحق يقال: إنّه لم يكن شرحٌ من تلك الشّروح يَفِى صحيح مسلم حقَّه من الشّرح والإيضاح من جميع النّواحِى الّتى تهمّ الباحثين المتعطّشين إلى اكتناه ما فى الكتاب من الخبايا. فإذا جاد أحدُ الشّروح فى الفقهيّات، أو الاعتقاديّات على مذهبٍ من المذاهب مثلاً، تجده يغفل شرح ما يتعلّق بسائر المذاهب عملاً واعتقاداً، وهذا لايُروِى ظمأ المباحث، أو تراه يُهمِل شرح مقدّمته مع أنّها من أقدم ما سطره أئمّة الحديث فى التّمهيد لقواعد المصطلح، ككتاب “التّمييز” لمسلم، وحق مثلها أن يشرح شرحاً وافياً، ونجد بين الشرّاح من يترك الكلامَ على الرجال بالمَرّة، مع أنّ الباحث فى حاجةٍ شديدةٍ إلى ذلك فى مواضعِ النّقد المعروفة، فاذا أعجبك أحدُ تلك الشّروحِ من بعض الوجوه، تجده لا يَشفِى عِلَّتَك من وجوهٍ أخر، وهكذا سائر الشّروح. وهذا فراغٌ ملموس، كُنّا فى غاية الشّوق إلى ظهور شرح لصحيح مسلم فى عالم المطبوعات يملأ هذا الفراغ.
وها نحن أولاء قد ظَفِرْنَا بضالّتنا المنشودة ببروز “فتح الملهم بشرح صحيح مسلم” بثوبه القشيب، وحُلَلِهِ المستملحة فى عداد المطبوعات الهنديّة، وقد صدر إلى الآن مجلّدان ضخمان منه، عددُ صفحات كل مجلّد منها خمسائة صفحة، وعدد أسطرِ كلِّ صفحةٍ خمسة وثلاثون سطراً، ولو كان الكتاب طبع بمصر لكان كلُّ مجلّد منه مجلّدين بالقطع الكبير، والمجلّد الثّالث على شرف الصُّدور، وقد اغتبطنا جدّ الاغتباط بهذا الشّرح الضّخم الفخم صورةً ومعنىً، حيث وجدناه قد شَفَى وكَفَى من كلّ ناحية، وقد ملأ بالمعنى الصّحيح ذلك الفراغ الّذى كنّا أشرنا إليه، فيجد الباحثُ “مقدّمةً كبيرةً” فى أوّله تجمع شتّات علم أصول الحديث بتحقيق باهرٍ يصل آراءَ المحدّثين النقلة فى هذا الصّدد بما قرّره علماءُ أصولِ الفقه على اختلاف المذاهب، غير مقتصِرٍ على فريقٍ دون فريقٍ.
فهذه المقدّمة البديعة تكفى المُطالِعَ مؤنةَ البحث فى مصادر لا نهاية لها. وبعد المقدّمة البالغة مائةَ صفحةٍ يلقى الباحث شرح مقدّمة صحيح مسلم شرحا ينشرح له صدر الفاحص، لم يدع الشّارحُ الجهبذُ موضِعَ إشكالٍ منها أصلاً، بل أبان ما لها وما عليها بكلّ إنصافٍ. ثمّ شرح الأحاديث فى الأبواب بغاية من الاتّزان، فلم يترك بحثا فقهيّاً من غير تمحيصِه، بل سَرَدَ أدلّة المذاهب فى المسائل، وقارن بينها، وقوَّى، ووهن الواهيَ بكلّ نصفة، وكذلك لم يُهمِل الشّارح المفضال أمرا يتعلّق بالحديث فى الأبواب كلّها، بل وفّاه حقّه من التّحقيق والتّوضيح، فاستوفى ضبط الأسماء، وشرح الغريب، والكلام على الرّجال، وتحقيق مواضع أورد عليها بعض أئمّة هذا الشّأن وجوها من النّقد من حيث الصّناعة، غير مستسيغ اتّخاذ قول من قال: “كلّ من أخرج له الشّيخان فقد قفز القنطرة” ذريعة للتّقليد الأعمى.
وكم ردّ فى شرحه هذا على صنوف أهل الزّيغ، وله نزاهة بالغة فى ردوده على المخالفين من أهل الفقه والحديث، وكم أثار من ثنايا الأحاديث المشروحة فوائد شاردة، وحقائق عالية، ولا ينتبه إليها إلا أفذاذ الرجال وأرباب القلوب.
ولا عجب أن يكون هذا الشرح كما وصفناه، وفوق ما وصفنا عند المطالِع المُنصِف، ومؤلِّفُه ذلك الجهبذُ الحجّةُ الجامعُ لأشتات العلوم، مُحقِّقُ العصر المُفسِّرُ المُحدِّثُ الفقيهُ البارعُ النقّادُ الغوّاصُ مولانا شبّير أحمد العثمانيّ، شيخ الحديث بالجامعة الإسلاميّة فى دابهيل، سورت، الهند، ومدير “دارالعلوم الديوبندية” (أزهر الأقطار الهندية) وصاحب المؤلَّفات المشهورة فى علوم القرآن والحديث والفقه، والردّ على المخالفين، أطال الله بقائه فى خير وعافية، الخ”
ومن المؤسف أنّ مؤلَّف “فتح الملهم” رحمه الله تعالى، لم يَتّفِق له إتمامُ هذا الكتاب، وذلك لأنّه كان من الزّعماء المُبرِزين فى حَرَكة تحرير الهند من الاستعمار الإنكليزى، ولما طالب المسلمون لأنفسهم بإقامة دولة مستقلّة باسم”باكستان” شرع رحمه الله تعالى يجاهد فى هذا السّبيل، ودعم هذه الحركة بكلِّ ما فى وُسعه، واشتغل فيها ليلَ نهارَ، حتى برزت “باكستان” على خريطة العالم فى صورة دولة إسلامية مستقلّة، فاشتغل الشيخ رحمه الله فى عمليّة بنائها على أُسُسٍ إسلاميّةٍ خالصةٍ، حتَّى انتقل إلى رحمة الله تعالى.
فلم يجد من أجل هذه الجهود المباركة فرصةً لإتمام كتابه، وإنما بلغ به إلى آخر كتاب النّكاح، وقد بَقِيَ نحو نصف الكتاب، وكان إكمال هذا الكتاب من أعزّ أمانى العلماء فى باكستان والهند، وكان والدى العلاّمة الشيخ المفتى محمد شفيع – رحمه الله تعالى – من أكثر النّاس اهتماماً بهذا الكتاب، وأشدّهم شوقاً إلى إكماله بنفسه، فأمرنى فى آخر حياته أن أشرع فى هذا العمل طالبا من الله التّوفيق لذالك.
فشرعت، بفضل الله تعالى، فى تأليف “تكملة فتح الملهم” وقد فرغت بعون الله تعالى وحسن توفيقه، من تأليف مجلّدين ضخمين ، وقد طبع منه مجلّد واحد طبع الحروف فى سبع مائة صفحةٍ على القطع الكبير، وبدأت به من أوّل كتاب الرضاع، فشرحت كتابَ الرّضاع، والطّلاق، والعتق، والبيوع، والمساقات، حتّى انتهى المجلّدُ الأوّلُ على آخر كتاب المساقاة، وقد فرغت فى المجلّد الثانى من الفرائض، والهبة، والوصيّة والنذور والأيمان، والديات، والحدود، ولا يزال العمل جاريا، أسأل الله سبحانه التّوفيق لإكماله على أحسن وجه.
وبما أنّ القسم الّذى شرعت فى شرحه يتعلّق أكثرُه بالمعاملات، وأنّ هذا القسم يحتاج إلى اعتناء أكثر، فإنّى بذلت قُصارَى جهدى فى تحقيقه وتنقيره، ومن المعروف أنّ قسم المعاملات فى أكثر شروح الحديث يعوزه ذلك البسطُ والتّفصيلُ الّذى نجده فى قسم العبادات من تلك الشروح، فأردّت فى هذه “التكملة” أن أملأ هذا الفراغ ببسط المباحث بسطا شافياً، إن شاء الله، على أنّه قد حدثت فى عصرِنا هذا مسائلُ ومباحثُ جديدةٌ، لم تكن معهودةً فى عصر المتقدّمين، فضمّنت هذه التكملةَ تلك المباحث والمسائل بكلامٍ مفصّلٍ مبسوطٍ، والحمد لله تعالى، وأرجو من إخوانى جميعا أن يدعوا الله سبحانه وتعالى لإتمام هذا العمل على وِفق ما يحبّه الله تعالى ويرضاه.
3- بذل المجهود فى حلّ أبى دأود
إنّ مكانة سنن أبى داود من بين كتب الأحاديث غنيّة عن كل شرح وبيان، ولذلك تناولها بالشرح والتعليق جهابذةُ العلماء المتقدّمين فى كلّ عصرٍ ومصرٍ، ولكن من المؤسف أنّ معظمَ هذه الشّروح قد طارت أدراج الرّياح، ولم يتيسّر لنا الحصولُ عليها والاستفادةُ منها، كشرح شهاب الدّين المقدسيّ، وسراج الدّين ابن الملقِّن، وشهاب الدّين الرّمليّ والحافظ ابن رسلان، رحمهم الله تعالى، وهناك شروح لأبي داود لم يتّفق إتمامُها لمؤلِّفيها، كشرح الحافظ زين الدّين العراقيّ، وقد كبته من أوّل السنن إلى باب سجود السّهو فقط فى سبع مجلّدات، ولو كَمُل، لجاء أكثرَ من أربعين مجلّداتٍ، وكشرح الشّيخ محي الدّين النوويّ، والحافظ علاء الدّين المغلطائي، وشرح الحافظ بدر الدّين العينيّ الحنفيّ، رحمهم الله تعالى.
وإنّما الموجود الميسّر من شروح أبى داود، هو معالم السّنن للخطّابي، وتهذيب السّنن لابن قيّم الجوزيّة، ومرقات الصّعود للحافظ السّيوطيّ، رحمهم الله تعالى، ولكن لا يخفى على مشتغِلٍ بالحديث أنّ هذه الشّروحَ على كثرة فوائدِها، وإصالة مادّتها، وعلوّ كعب مؤلفيها فى العلوم الإسلاميّة، موجزة غاية الإيجاز، كأنّها ليست شروحاً لجميع أحاديث الكتاب، وإنّما هى تعليقات على أحاديث منتخبة من سنن أبى دأود.
فكانت هناك حاجةٌ شديدةٌ إلى شرحٍ جامعٍ لسُنَنِ أبى داود، فقام فى العصور الأخيرة ثلاثةُ علماء لملأ هذا الفراغ:
۱. العلامة المحدّث الكبير شمس الحقّ الديانوي (المتوفّى سنة ۱۳۲۹ھ) قد بدأ بتأليف شرحٍ عظيمٍ سمّاه “غاية المقصود” إلاّ أنّه لسعة دائرته وضخامة عمله لم يتمّ، ولعلّ المؤلِّفَ قد شعر بأنّ هذا العمل لا يتمّ فى حياته، فضيّق دائرته، وأخرجه فى أربع أجزاء، وسمّاه “عون المعبود”، ونسبه إلى أخيه الشيخ محمّد أشرف، وهو من تأليفه حقيقة.
۲. العلّامة المصلح الدّاعية الشّيخ محمود محمّد خطاب السبكي المصريّ (المتوفّى سنة ۱۳٥۲ھ) ألّف شرحا حافلا سمّاه “المنهل العذب المورود” وقد طبع فى عشرة أجزاء، ولكنّه لم يتمّ، وبلغ به إلى باب التّلبيد من كتاب الحجّ.
۳. العلّامةُ المحدِّثُ الكبير مولانا الشّيخ خليل أحمد السهارنفوريّ رحمه الله، ألّف شرحاً جامعاً سمّاه “بذل المجهود فى حلّ سنن أبى دأود”، وقد طُبِع هذا الشرح لأوّل مرّة طبعا حجريّا على قطع كبير جدّا بخطٍّ دقيقٍ فى خمس مجلّدات ضخام، تمّ طبعته دار العلوم ندوة العلماء بلكنو الهند طبع الحروف فى عشرين مجلّدا.
وإنّ هذا الشّرح أجمعُ الشّروح المتداوَلة لسنن أبى داود، وأغزرها مادّة، وأكثرها فوائد، وأضبطها أسلوبا. ويقول الأستاذ الدّاعيةُ الكبيرُ العلّامة الشيخ أبو الحسن عليّ الحسنيّ الندويّ – حفظه الله تعالى ومتّعنا بطول بقائه بالخير – متحدّثا عن مزايا هذا الشّرحِ الجليل:
“أمّا هذا الشرح فيمتاز بأنّه كُتِب على نهج المشتغلين بالحديث والباحثين فيه، وكبار الشّراح الذين تلقّت الأمّة شروحَهم بقبولٍ عامٍّ، وانتفع بها طلبةُ العلم فى كل عصرٍ، واشتمل على بحوثٍ قيّمةٍ فى أسماء الرّجال وأصول الحديث، وعارض مؤلِّفُه الحجّةَ بالحجّةِ، وكان كلامُه فى أكثر الأحيان محدوداً فى صناعة الحديث ومتعلّقاتِها من الفنون.
وقد استفاد المؤلِّفُ فى هذا الشّرح بتحقيقاتِ شيخِه الإمام المحدِّث مولانا رشيد أحمد الكنكوهي الّتى جاءت فى دروسه، وضبطها وقيدها تلميذُه النابغةُ الشّيخ محمّد يحيى، وكان من خصائصه أنّه يتحرّز بقدر الإمكان عن نسبة الخطأ إلى الرّاوى، واذا التجأ إليه الشّراح ولم يروا من ذلك بُدّاً فضّل الشيخ العلّامة تاويلَ ذلك بما يسيغه الفهم، ويقبله العاقل المنصف، ومثال ذلك الروايات التى جاء فيها وضع الخاتم، فقد ذهب جميع المحدّثين إلى أنّه وهم من الزهرى، ولكن مؤلف “بذل لمجهود” أوّل ذلك تأويلاً حسنا، وهو مقتبس من كلام الشيخ الكنكوهى.
ومنها لطائف الاستنباط التى احتوى عليها هذا الشرح، ويراها القارى منثوره فى ثنايا هذا الكتاب.
وكذلك من محاسن الكتاب، ومن مواضعه المهمّة الّتى ظهر فيها جهدُ المؤلِّف وإمعانُه: أحاديث الفِتَن والملاحم، وقد اجتهد فى تعيين هذه الفتن الّتى أشير إليها فى هذه الأحاديث واهتمّ بترجيح الرّاجح، وعيّن بعضها باجتهاده واستقصائه.
وقد يتردّد الشّارح فى صحة لفظ ورد فى الحديث فيجتهد فى تحقيقه إجتهاداً بالغاً، ولا يدّخر جهدا، ويرى القارى نموذج ذلك فى “باب عبيد المشركين يَلحقون بالمسلمين فيُسلمون” فى كتاب الجهاد، فقد ورد فى متن الحديث عن علىّ بن أبى طالب قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعنى يوم الحديبية قبل الصّلح، وقد أطال الشّارح الكلام فى وقوع القصّة يوم الحديبية، وأثبت أنّ هذه القصة وقعت فى غزوة الطّائف.”
4- أوجز المسالك إلى موطّأ الإمام مالك
هذا الكتاب من أجلّ مؤلّفات بركة العصر الإمام شيخ الحديث مولانا محمّد زكريّا الكاندلوي رحمه الله تعالى، شرح فيه الموطّأ للإمام مالك رحمه الله تعالى شرحاً وافياً، ومن المعروف لدى أهل العلم أنّ موطأ الإمام مالك رحمه الله من أدقّ كتب الحديث والآثار، يترقرق منه فقهُ إمام دار الهجرة، وعمقُ تفكيره، وقوّةُ اجتهاده رحمه الله تعالى. فشرحه شيخُنا رحمه الله تعالى ما ذلّل صعابه وأبرز خباياه، وجعل مضمونه بمتناوَل كلِّ طالبٍ للحديث والفقه. ولقد لخّص شيخُنا العلامة المحدّث الكبير الشيخ محمّد يوسف البنورى رحمه الله تعالى مزايا هذا الكتاب فى نقاط عشرة، فقال:
“الأوّل: أنّه شرح ممزوج مع متن الحديث ولفظ السند، فيشرحه شرحا حرفيا، فيسهل على الناظر تعاطيه، ويدرك قوادمه وخوافيه.
الثانى: أنّه ينبّه على سائر الألفاظ الواردة فى الأمّهات الستّ من رواية لفظ الحديث، لكي يقفَ النّاظرُ على شرحه بوضوح وجلاء، ويتسنّى له ترجيح بعضها على بعض من غير خفاء.
الثالث: أنّه يستوفِى شرحَ أسماءِ الرّجال بكلام موجَز منقّح مع جرح وتعديل إيقاظا للنّاظر على درجة الحديث.
الرابع: أنّه يستوفِى بيانَ المذاهب الأربعة وما عداها فى المسائل الخلافية، من كتب موثوقة عند أهلها، بل يستقصى الأقوالَ والرّواياتِ المختلفةَ المرويّةَ فى كتب المذاهب عن الأئمّة، ولا سيما فى مذهب مالك، لكي يطمئنّ كلُّ من انتسب إلى أحدٍ من الأئمّة المتبوعين على بصيرة.
الخامس: أنه يذكر أدلّةَ المذاهب تارة بالاستقصاء، وتارةً بالتّلخيص حسب ما اقتضاه المقام.
السّادس: أنّه يعتمد فى شرح الحديث على جهابذة شارحى الموطأ، كالقاضى أبى الوليد الباجى، والقاضى عياض، وأمثالها، وتارة ينتقى من كلام المتأخّرين من الشّارحين.
السّابع: أنّه أوفى شرحٍ للموطّأ حديثاً وفقهاً ولغةً بقولٍ وسطٍ فى الباب من غير إخلالٍ وإطنابٍ.
الثّامن: أنّه يذكر فى شرح الحديث بعد إستيفاء أقوال الشارحين الأعلام ما تلقّاه من أعلام عصره، كالشّيخ المحدّث السهارنفوريّ صاحب “بذل المجهود” وفقيهِ عصره الشيخ المحدث الكنكوهي، وصاحبِه الشيخ محّمد يحيى الكاندلويّ والد المؤلّف، وذلك فى معترك صعب يتجلّى فيه نبوغُ هؤلاء الأعلام، وما يذكره من أعيان الهند المحقّقين، كالشاه ولىّ الله الدهلويّ فى شرحه باللغة الفارسية: “المصفّى” وفيه نفائس، والشيخ المحدث اللكنوي فى السّعاية، والمحدّث السّنبلي فى شرح مسند أبى حنيفة، والمحدّث النيموي فى آثار السنن وغيرهم، وكل ذلك علوم وأبحاث تختص بالبلاد الهندية لم تصل إلى بلاد العرب، فأصبح الشرح بذلك وثيقةَ اتّصال بين أعيان الهند وأعلام العرب.
التّاسع: أنّه اعتنى بغرر النُّقول من كُتُبِ القدماء والمتأخّرين من المحدّثين من كتب لم تطبع عند تأليفه بالقاهره، ولا ببلاد العرب، فلم تصل إلى البلاد العربيّة تلك الأبحاثُ الرائعةُ، كتأليف الإمام الطحاوي عبقري هذه الأمّة فى قدماء المحدّثين، كمشكل الآثار، وشرح معاني الآثار وككُتُبِ الإمام محمّد بن الحسن الشيبانيّ من الحجج والآثار وككتاب البناية شرح الهداية للبدر العينيّ، فأصبحت وسيلة صادقة لاطلاع أرباب العلم من بلاد العرب.
العاشر: أنّه استوى الشرح من بدئه إلى الختام بأسلوبٍ واضحٍ غير معقد، بعبارةٍ فصيحةٍ سهلةٍ وبخطة متوسطة بين الإيجاز وبين الإسهاب والإطناب،…. فخذها وتلك عشرة كاملة من أمّهات خصائصِ الشّرح لم أرد استيفاءَ محاسنها، ولا استقصاء دفائنها من معادنها، وأرجو أن يقتنع بها كلُّ بحّاثة، وتنكشف بها أمام كلِّ باحث مخدراتُها المحتجبةُ”.
وقد طبع هذا الشرح الجليل طبعا حجريّا بخط دقيق جدًّا فى ستّ مجلّدات ضخام، ثم أعيد طبعه فى سنة ۱۳۹۳ھ طبع الحروف، وقد جاءت منه مجلّدات.
وقد صدّر المؤلف هذا الكتاب بمقدمة علميّة قيّمة صفحاتها أكثر من مائة على القطع الكبير، وتشتمل على سبعة أبواب فى تعريف علم الحديث وفضله وتاريخه، وتدوينه، وتعريف الموطأ، ونسخه المختلفة وترجمة مؤلفه، وعاداته فى الموطأ، ورواته، ومرسلاته وبلاغاته، وما إلى ذلك من المباحث النّافعة المفيدة، فرحم الله المؤلِّفَ وأجزل أجره وثوابه، ونفعنا بعلومه، آمين.
5- إعلاء السنن
وإنّ أعظم كتابٍ أُلّف فى شرح أحاديث الأحكام من قبل علماء الهند هو كتاب “إعلاء السنن” الّذى ألّفه الإمام العلامة الحافظ النّقّاد الشّيخ ظفر أحمد العثمانيّ رحمه الله تعالى فى عشرين مجلّدا ضخمة فخمة، بأمر شيخه ومرشده العالم الحبر العارف المتورّع الشيخ أشرف على التهانويّ رحمه الله تعالى الذى يلقّب “حكيم الأمة” فى هذه الديار.
ولا شكّ أنّ هذا الكتاب من أعظم ما أخرجه القرن الرابع عشر من الكتب العلمية، وكان مقصود الشّيخ رحمه الله فى هذا الكتاب أن يجمع دلائلَ الحنفيّةِ من أحاديث الأحكام على صعيدٍ واحدٍ، ويشرحها متناً وإسناداً، ولكنّه لم يقتصر على جمع دلائل الحنفية فحسب، وإنّما جمع دلائلَ سائرِ المذاهبِ الفقهيّةِ، ومخض من أجل ذلك كُتُبَ الحديث والفقه وأصولهما وغربلها غربلةً قلّ فى هذا العصر من يدانيه فى ذلك، حتَّى صار كتابُه هذا أجمعَ كتابٍ لأحاديث الأحكام، وأغناها ثروةً لمباحث متن الحديث وإسناده.
وقد صدّر الكتابَ بثلاث مقدماتٍ ضافيةٍ أَتَى فيها بالعَجَبِ العُجاب فى مباحث أصول الحديث والفقه، ثمّ شرع كتابَه من كتاب الطهارة على ترتيب الهداية من كتب الحنفيّة، واستقصى دلائلَ الحنفيّة فى متن الكتاب من الأحاديث المرفوعة والموقوفة، ثمّ شرحها فى تعليقه المبسوط، وأتى بما يُخالفُها من النّصوص والآثار، وتكلّم على جميعها رواية ودراية، فنقد رجالها، وشرح غريبها، وحقّق تاريخها، ونقّر أحكامها وأبرز فوائدها المجنوّة، وكل ذلك بعبارةٍ متينةٍ رصينةٍ، حتَّى أتى إلى آخر كتاب الفرائض، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وقد ذكر الإمام الشيخ محمّد زاهد الكوثريّ رحمه الله تعالى هذا الكتاب فى مقالة من مقالاته، فقال:
“فاشتغل هذا العالم الغيور بهذه المهمة الشّاقّة نحو عشرين سنة اشتغالاً لامزيد عليه، حتى أتم مهمّته بغاية من الإجادة بتوفيق الله سبحانه فى عشرين جزءا، وسمّى كتابه هذا “إعلاء السنن” وجعل له فى جزء خاص مقدمة بديعة فى أصول الحديث نافعة للغاية فى بابه. والحقّ يقال: إنّى دهشت من هذا الجمع وهذا الاستقصاء، ومن هذا الاستيفاء البالغ فى الكلام على كلِّ حديث بما تقضى به الصناعة متناً وسنداً، من غير أن يبدو عليه آثار التكلّف فى تأييد مذهبه، بل الإنصاف رائده عند الكلام على آراء أهل المذهب، فاغتبطت به غايةَ الاغتباط، وهكذا تكون همة الرجال وصبر الأبطال”.
ومن المؤسف أنّ هذا الكنـز الثّمين لم يزل مخبوءً مدة نصف قرن تقريباً، ولم يطبع منه إلاّ أحد عشر جزءاً طبعاً حجريّا على ورقٍ رديئ، ونفدت هذه الأجزاءُ أيضاً، فما أعيد طبعها، حتّى أصبح الحصولُ عليها بمكان من الصعوبة، ولكنه قد طبع الآن – والحمد لله – بتمامه طبع الحروف طبعا جميلاً لابأس به بمدينة كراتشى فى عشرين جزءا، ونشرته “إدارة القرآن والعلوم الإسلامية” بكراتشى، فجاء الكتاب فى حيّز الوجود، وأصبح بمتناول الطالبين، غير أنه توجد فى هذه النسخة أخطاء مطبعيّة يرجى زوالها فى الطبعات القادمة إن شاء الله، وكان الإمام الكوثريّ رحمه الله أبدى أمنيته فى مقلاته قائلا:
“فياليت بعض أصحاب المطابع الكبيرة بمصر سعى فى جلب الكتاب المذكور من مؤلفه، وطبع تمام الكتاب من أوّله إلى آخره بالحروف الجميلة المصرية، ولو فعل ذلك أحدهم لخدم العلم خدمة مشكورة، وملأ فراغا فى هذا الباب”.
6- معارف السنن
هو شرحٌ لجامع الترمذيّ، ألّفه شيخنا العلامة المحدّث الشيخ محمد يوسف البنّوريّ رحمه الله تعالى، وهو من أجلّ تلامذة إمام العصر الشيخ محمد أنور شاه الكشميريّ رحمه الله تعالى صاحب “فيض البارى”.
وكان بعض أصحاب الشيخ الكشميريّ رحمه الله ضبط محاضرات درسه لجامع الترمذيّ، ونشرها باسم “العرف الشذيّ” وإنّ هذا الكتاب وإن كان جامعا لكثير من إفادات الشيخ رحمه الله، ولكنها تحتاج فى كثير من المواضع إلى شرح وإيضاح، وإصلاح ما وقع فيها من مسامحات الضابط، فأراد شيخنا البنورى رحمه الله بادئ ذى بدء أن يسدّ هذا الفراغ بتهذيب “العرف الشذي” ولكنه لما شرع فى عمله هذا تغيّر رأيه، فاستأنف عملَه بتأليف شرح مستقلٍّ لجامع الترمذيّ على ضوء إفادات شيخه الإمام الكشميري رحمه الله تعالى.
فجاءت من هذا الشرح ستّ مجلدات ضخمة، وبلغ فيها إلى نهاية كتاب الحج، حتى فوجئ بأجله الموعود قبل أن يمتعنا بإكماله، رحمه الله تعالى.
وإنّ هذا الشرح من أغزر شروح جامع الترمذيّ مادّة، وأكثرها تفصيلا، وأعظمها فائدة، يتجلّى فيها معارف الإمام الكشميرى وعلوم تلميذه الشيخ البنّوريّ رحمهما الله تعالى، وإنّ عبارة هذا الكتاب تفوق شروح الحديث الأخرى فى سلاستها، ورصانتها، وقيمتها الأدبيّة، وإنّ الشيخ رحمه الله تعالى جمع فيها الأصالة والإ بداع على أسلوب عصريّ رزين.
7- لامع الدرارى
هو مجموعة لأمالى الإمام الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي، رحمه الله تعالى، وكان رأس العلماء المتقين فى عصره، انتهت إليه رئاسةُ العلوم الدّينيّة فى بلاد الهند، وكان يدرّس فى قريته الأمهات الستّة من أوّلها إلى آخرها فى سنة واحدة، يرجع إليها الطلاب من أقصى البلاد وأدناه، وكان يشرح الأحاديث فى درسه شرحا موجزا ملخّصا بكلام لبّ، فضبط تلميذه الأرشد الشيخ محمد يحيى الكاندلويّ رحمه الله تعالى إفادات درسه بلغة عربية، وشرحها ابنُه العلّامة الشيخ محمد زكريّا الكاندلوى رحمه الله صاحب أوجز المسالك، ببسط وتفصيل، وانتقى فيه من مباحث الشروح الأربعة المتداولة لصحيح البخاريّ، وأضاف إليه إفادات من عنده ومن مشايخه الآخرين، حتى صار الكتاب شرحا جامعا لصحيح البخاريّ ربّما تكون فيه للطلاّب غنية عن الشروح الأخرى.
وطبع هذا الكتاب أوّل مرّة فى سهارنفور الهند فى أربع مجلدات على القطع الكبير بخط دقيق جدّا، ثم أعيد طبعه بمدينة كراتشى باكستان طبع الحروف الجميلة عشر مجلّدات.
8- الكوكب الدرّىّ
هو مجموعة لأمالى الإمام الشّيخ رشيد أحمد الكنكوهي رحمه الله تعالى، نفسه فى درسه لجامع الترمذى فى مجلدّين لطيفين، وعليها تعليقات نفيسة للعلامة الشيخ محمد زكريّا الكاندلوّى رحمه الله تعالى، وإنّ هذا الكتاب على وجازته واختصاره مفيد للغاية فى شرح كتاب الترمذيّ، وربّما يوجد فيه من فوائد ممتعة مالا يوجد فى الشروح المطوّلة الأخرى، وإنّ الإمام الكنكوهيّ رحمه الله تعالى كان من علماء الأفذاذ المتقين، قد سبر أنجاد العلوم الدينيّة، وخاض أغوارها، فربّما يأتى فى أماليه بكلام موجز فى سطر أو سطرين، ولكنه حصيلة دراسته الدّقيقة للمطوّلات، ونتيجة فكره المبدع، فتنحلّ به العُقَدُ، وتتذلّل منه الصّعابُ، وقد جرّبنا فى باكستان والهند أنّ الأساتذة عند درس جامع الترمذيّ يهتمّون بهذا الكتاب أكثر من اهتمامهم بالشروح المطوّلة الأخرى، لما يوجدون فيه من فوائد تشفى عطشهم، وتُروى غلّتهم.
9- قلائد الأزهار
من المعروف لدى أهل العلم أنّ كتاب الآثار للإمام محمد بن الحسن الشّيباني رحمه الله من أقدم كتب الحديث تأليفاً، ولم يكن لهذا الكتاب شرحٌ ميسّرٌ يفتح مغلقاته، ويوضح مكنوناته، فشرحه مولانا الشيخ المفتى مهدى حسن رحمه الله تعالى فى مجلّدين ضخمين، وسمّاه “قلائد الأزهار فى شرح كتاب الآثار” وهو شرح مبسوط يجمع بين تخريج الآثار تخريجا وافيا، والكلام على أسانيدها كلاما مُقنِعا، والبحث على مذاهب الفقهاء وأدلّتهم بحثا ممتعا، فجزاه الله تعالى خير الجزاء.
فهذه تسعة شروحٍ لكتب الحديث، أردنا فى هذه المقالة تعريفها تعريفا موجزًا، فإنّها من أهم ما ألّفه علماء الهند وباكستان فى القرن الرّابع عشر من شروح الحديث، ولئن أردنا استقصاء ماكتبوه فى السنّة وعلومها لاحتاج ذلك إلى تأليف عدة مجلدات ضخمة، وإنّما المقصود فى هذه المقالة الوجيزة تعريف الأهم منها، لتكون مشوّقة إلى التعريف بمؤلّفات علماء الهند وباكستان، جزاهم الله تعالى خيراً.

ولله الحمد أوّلاً وآخراً، وصلى الله تعالى على نبيّنا، وسيّدنا ومولانا محمّد وآله وأصحابه أجمعين.